سام برس/ تونس/ شمس الدين العوني

الكتابة بما هي سفر مفتوح حيث لا مجال الا للحوار والمحبة بعيدا عن رياح العولمة العاصفة
في تلوين فنّي جميل يأخذنا صاحب الرواية الى أجواء فيينا... هذه الساحرة المفعمة بالتفاصيل

الكتابة متعة لا تضاهى، تحملنا طوعا وكرها الى عوالم نحاولها ونحاورها في ضروب من الدهشة البكر حيث السؤال مآل..هكذا هو فعل الكتابة تمجيد للذات في عنفوان بهائها وهي تتقصد امكنتها الملائمة نحتا للقيمة وقولا بالبراءة الأولى.. والسرد لون من الكتابة أخاذ بما يضفيه على اللحظة من سحر وجمال وحنين وارباك وانتظار..

تمضي مع النص فيأخذك الى غبطته الباذخة عبر منعطفاتها وتجاويفها وأسرارها ومفاجآتها..انها الحكاية وقد تخيّرت لونها وطرائق قولها في النفس..هذه النفس الأمّارة بالأسئلة..أسئلة المحبة والودّ ورغبة الوصول الى الاخر...والبوح..في هذا المعنى المفتوح على مجد الكتابة، نلج عالما سرديا اقترحه كاتب تونسي شاب اخذته هذه النفس الامارة بالمغامرة الى ضفة أخرى من ضفاف هذا السفر الانساني المفتوح حيث أقام في ألمانيا بعد أن تقلّصت أحلامه في الوطن الأم تونس وتحديدا بفيافي الشمال التي أرهقتها الفاقة واليأس ومشتقات الاحباط..من ربوع سليانة تحديدا هذه المدينة العامرة بالتواريخ والأمجاد كانت الحكاية في براءتها وصدقها ووجدها مفتوحة على الحكايات الكونية الأخرى ومنها حكايات مساءات فيينا..هذا العمل صدر عن منشورات وليدوف للكاتب و المترجم التونسي وليد سليمان.

حكايات تلتقي للتقاطع وتتحاور وتتحابب بالنظر لما يجمعها وما يفرّقها ايضا حيث الخيط الرابط هو الانسان بشؤونه وشجونه بعيدا عن اللون واللغة والعرق...انها حكاية الانسان القديمة والمتجددة والتي عنوانها الانسان واحد وهمومه شتى ولا مجال الا للحوار والمحبة والدّفء بعيدا عن رياح العولمة ومنعطفاتها العاصفة بأجمل ما في هذا الإنسان... خصوصياته، أشياؤه البسيطة وأحلامه العميقة ومشاعره وحريته...

عمل روائيّ شاق ومشوّق بالنّظر لتيمة الاشتغال ولتخيّر الشخصيات والأمكنة بعيدا عن التعقيدات المركّبة والمفتعلة والمملّة... انها حكاية لا تملك إلاّ أن تمضي معها بعواطفك كإنسان يرنو الى التواصل مع الآخرين وإضفاء ألوان الحبّ على هذا الكون المتداعي للسقوط في ضروب عديدة منها الأزمات والمعارك الوهمية والحروب..


"المساء لا يموت في فيينا ".. هذا هو عنوان هذه الرواية التي ابتكر أحداثها وتفاصيلها هذا الطفل التونسي بما تعنيه الطفولة من براءة الأفكار والعفويّة والفطرة...
عبد الجليل الدايخي هو هذا الطفل القادم من ربوع الشمال الغربي تلك المناطق الآهلة بالطيبة رغم الفقر وهلاك الأحوال... يتوقّف بنا عند محطّة مفصليّة في حياته لينقل الينا هواجسه وشيئا من أحلامه المتكسّرة على صخرة الواقع المؤلم...

في تلوين فنّي جميل يأخذنا صاحب الرواية الى أجواء فيينا... هذه الساحرة المفعمة بالتفاصيل ضمن تقاليد الأمكنة وأجوائها المأخوذة بسحر الثقافة والفن والعلاقات والتقاليد و... و...
مساءات فيينا لها طعمها الخاص... لذلك هي تتجدّد كل يوم وإن بأشخاص آخرين.... المهمّ ان تتواصل الحكاية ففي تواصلها واستمراريتها... تعبير عن حضور زمكاني وجداني من خلاله تبرز شساعة الفضاء الرّوائي ولذلك يبدأ كل جزء من هذا العمل الرّوائي بوصف للأجواء الحافة بالمساء خارج المقهى ليأخذنا بعد ذلك فيما يشبه الترافلينغ داخل المقهى لتتواصل الفصول الأخرى من الحكاية حيث يكون الراوي الذي يساعد الراوية وهي سيدة فيينا...

عبد الجليل الدايخي في هذه الرواية اشتغل على عالم القيم التي يفتقدها بعض الناس والشعوب ممّا أدى الى اللهاث وراء الزيف والسقوط حيث ينسى الكائن مهما كانت ديانته وجنسيته وجغرافيته ما به يكون انسانا صاحب مجد وفعل في هذه الحياة التي تنتهي بالموت وحديث الموت في هذه الرواية له حضور بارز ذلك ان سيدة فيينا تسعى في حكاياتها الى التذكير به باعتباره دافعا للفعل النبيل حيث يتساوى الناس منذ الخلق الى لحظة الموت والمغادرة ولكن الفارق يظلّ في العمل على تمجيد وتفعيل القيم التي تجعل للحياة معنى ولونا، كل هذا الحديث يأتي على لسان هذه السيدة القادمة من ثقافة الغرب بأنوارها وأفكارها وكذلك على لسان هذا الشاب القادم من ثقافة الشرق او بالتحديد من الثقافة العربية الاسلامية وهنا يشترك هذا الحوار في عديد الرؤى والعناصر والمبادئ مدحا للنبل وللعلوّ والسموّ والزّهد والتفاعل وصولا الى تفنيد ما يسمّى بصدام الحضارات الذي كان العنوان البارز للكتاب الذي تطالعه سيدة فيينا في جلستها تلك في مساء فيينا والذي يكتشفه عبد الجليل قراءة بعد محاولات مرهقة لقراءته وترجمته حيث أخذته السيدة في حديث يتطلب تركيزا وانتباها شديدين لينجح في النهاية الى معرفته لغة أجنبية وترجمة في سياق من استراق هذه القراءة.

حول الموقع

سام برس