بقلم/ سوسن مهنا
يتحضر لبنان لمعركة شد حباله الاقتصادية، بعد الضربات المتلاحقة التي عصفت به، وتشير التقارير إلى أنه يتعرض لأسوأ أزمة اقتصادية منذ عقود، وبات 45 في المئة من الشعب اللبناني يرزح تحت خط الفقر.

تداعيات وباء كورونا الذي فرض التعبئة العامة وتمديدها حتى 24 مايو (أيار)، انعكس شللاً على مختلف الصعد ما زاد الطينة بلة، وكانت الحكومة اللبنانية قد أعلنت الخميس 30 أبريل (نيسان) أنها ستطلب مساعدة صندوق النقد الدولي من أجل وضع حد للانهيار، وأتى ذلك بعدما أقرت بالإجماع خطة إنقاذ إصلاحية، قالت إنها ستشكل "خريطة طريق" لإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية وسط غضب الشارع.

الرد جاء سريعاً من جمعية المصارف اللبنانية، عبر بيان بعنوان "عن القرش الأبيض واليوم الأسود"، أعلنت فيه أنها لا تستطيع "بأي حال" الموافقة على خطة إنقاذ اقتصادي حكومية لم تتم استشارتها بشأنها، ما قد يدمر الثقة بلبنان ويعيق الاستثمار، ويضر بأي فرص للتعافي، وأشارت الجمعية إلى أن إجراءات الإيرادات والإنفاق "غامضة" وغير معززة بجدول تنفيذ زمني دقيق، وأكد البيان التمسّك بقطاعٍ خاص، كشرطٍ أوّل لنهضة لبنان مجدّداً.
وكانت الجمعية دعت النواب لرفض الخطة لانتهاكها جزئية الملكية الخاصة، لكن الدعوة للمناقشة لم تأت من قبل رئاسة المجلس بل أتت من قبل رئيس الجمهورية ميشال عون الذي دعا رؤساء الكتل النيابية إلى "لقاء وطني في قصر بعبدا الأربعاء السادس من مايو لعرض برنامج الحكومة الاصلاحي".

وكانت آخر الأرقام الواردة عن الودائع المالية الموجودة لدى المصارف اللبنانية قد أفادت بانخفاض من حوالى 170 مليار دولار إلى 147 مليار دولار، بعد نزيف الدفع اليومي للمودعين والتحويلات التي حصلت إلى الخارج، لكن المشكلة، وبحسب مصادر مصرفية، أن هذه الأرقام هي أرقام دفترية، أي على الورق، بينما لا تملك المصارف أكثر من مليارين أو ثلاثة مليارات من الدولارات نقداً في الخارج، وتشير المصادر نفسها إلى أن خطة الحكومة الاقتصادية اعتمدت على دراسة "لازارد"، وكانت الدراسة قد لحظت 21 قانوناً يجب إقرارها قبل تنفيذ أي تعديل على النظام المصرفي المعمول به في لبنان منذ أكثر من 70 عاماً، إذ لا يمكن تنفيذها (أي الخطة) إلا بعد تعديل القوانين.

21 مليار دولار

وكان مصرف لبنان قد صرّح أن السيولة الموجودة لديه تبلغ حوالى 21 مليار دولار، والتي تشمل ضمناً الحسابات الجارية بين مصرف لبنان والدولة اللبنانية، أو الديون التي لمصرف لبنان على الدولة اللبنانية. يأتي كل هذا وسط انخفاض سريع في قيمة الليرة اللبنانية، ونقص في الواردات، وتباطؤ حركة البنوك، وآلاف حالات التسريح من العمل، وهواجس الناس واحدة تتمحور حول سؤال "وين راحوا مصرياتي"؟

مسؤولية أطراف الأزمة الثلاثة، الحكومة والمصارف ومصرف لبنان، أي الاقتصاد والنقد والمال عن الأزمة، كما عن المساهمة في الإنقاذ، وتداعيات عدم تنفيذ المصارف لتعاميم المصرف المركزي أسئلة طرحتها "اندبندنت عربية" على خبراء في الاقتصاد والقانون.

وفي هذا السياق، رأى رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، الدكتور باتريك مارديني "أن الحكومة حمّلت المسؤوليات لكل أطراف الأزمة، لكنها استثنت نفسها، وقامت الحكومة بتحميل المصارف وأصحابها كما المودعين مسؤولية 86 مليار دولار من الخسائر، ولكن تغاضت عن أن الجزء الأكبر من هذه الخسائر هي من اقترفها عندما قررت ألا ترد ديونها، أما الجزء الثاني من المسؤولية فيتحمله مصرف لبنان عندما اعتمد سياسة تثبيت سعر الصرف، والجزء الأصغر من المسؤولية يذهب الى المودعين بمبلغ حوالى 10 مليارات دولار، إذاً، المشكلة الأساس هي في مبلغ الـ 70 مليار دولار الذي تسبب به القطاع العام ومصرف لبنان، وبما أن المصارف مكشوفة على القطاع العام من جراء الديون، فهي من تتحمل الخسائر مجبرة.

ديون الدولة

أما عن عملية الإنقاذ، فيشير مارديني إلى أن "الخطة المطروحة من قبل الحكومة لا تعالج أسباب الأزمة، إذ إن المشكلة الأساس هي في مديونية الدولة، كما أن الخطة لا تلحظ ولا تعالج أسباب المشكلة، أما عن أحد أهم وأكبر الأسباب فهي "الخسائر الهائلة في قطاع الكهرباء من جراء بيع الكهرباء بأقل من سعرها وتكلفتها، ونصت الخطة صراحةً على أن الحكومة لن تعدل من تسعيرة الكهرباء على الرغم من أن أسعار النفط هي الأدنى عالمياً"، و"تعترف الحكومة بأصل الأزمة لكنها لا تريد الإصلاح، بل هي تقترح زيادة الإنتاج عن طريق خطة قدمت في السابق لمؤتمر "سيدر" بسعر 5.4 مليار دولار، في هذه الحالة من سيقوم بتسليف لبنان هذا المبلغ الضخم؟

أما عن الإصلاحات، فيضيف مارديني "بتحويل تسعيرة الكهرباء إلى تسعيرة متغيرة، هنا تستطيع الحكومة تصفير الخسائر، وبدل استدانة مبلغ 5.4 مليار دولار، تستطيع الطلب من شركات خاصة بناء معامل الإنتاج، لكن الدولة لديها إصرار على أن تدفع من أموالها كي تقوم بالمشاريع عن طريق الصفقات العمومية وهذه الصفقات هي المسبب الأكبر للدين العام".

التوقف عن تمويل الدولة

أما مصرف لبنان، فيخسر من جراء سياسة تثبيت سعر الصرف، وتمويل الدولة عن طريق زيادة الكتلة النقدية، لكن زيادة الكتلة النقدية أدت إلى إضعاف الليرة على سوق القطع، بالتالي كان يتدخل لبيع الدولار وشراء الليرة لتثبيت سعر الصرف، هذا ما أدى إلى تكبده خسائر كبيرة، "والخطة المطروحة من قبل الحكومة الانتقال من سعر صرف ثابت لنظام صرف عائم، وللأسف الشديد، إذا ما استمر النهج ذاته أي زيادة الكتلة النقدية لتمويل نفقات الحكومة لن نصل إلى سعر عائم بل غارق، عندها نكون قد شرعنا التدهور. هذا الأمر يناسب الجميع ما عدا الشعب، إذ إن المصارف والمصرف المركزي والحكومة لا تمانع هذا التوجه".

ويرى مارديني أن الحل هو بتوقف مصرف لبنان عن تمويل الدولة اللبنانية، مضيفاً أن الاصلاح النقدي يأتي عن طريق تغيير النظام النقدي في لبنان، واستبدال المصرف المركزي بمجلس نقد أي Currency Board وهو نظام يتمتع بصدقية، ويمنع السلطات النقدية من أن تطبع أي ليرة إذا لم يكن مقابلها دولار، عندها تكون الليرة اللبنانية مغطاة 100 في المئة بالدولار "بالتالي يؤدي إلى تثبيت سعر الليرة بشكل نهائي".

وفي موضوع المصارف التجارية، "الخسائر هي بحدود 83 مليار دولار، ما يرتّب خسارة المصارف لرأسمالها الذي يبلغ حوالى 21 مليار دولار، ويبقى مبلغ 62 مليار دولار الذي سيحمّل للمودعين. لكن السؤال أي مودعين سوف يتحملون تغطية هذا المبلغ، هل هم من يمتلك فوق الـ 500 ألف دولار أو فوق الـ 100 ألف دولار؟، والسؤال الثاني بأي طريقة هل بالاقتطاع أو بإعطائهم أسهماً في المصرف، أو في تحويل أموالهم إلى الليرة على سعر 1500، وسائل عدة للسيطرة على أموال المودعين".

ويضيف مارديني "المشكلة في النظام المصرفي اللبناني أنه ما زال مقفلاً، يجب فتح السوق اللبنانية للمصارف الدولية، وهذا يجعلنا نتفادى أزمة مستقبلية، إذ إن الدولة اللبنانية لا تستطيع أن تفرض على المصارف الأجنبية شراء سندات خزينة بالقوة، أيضاً لن تستطيع المصارف اللبنانية أن تتحكم بالمودع كما تفعل الآن".
تعاون مطلق

المحامي علي زبيب الخبير القانوني الدولي في الشؤون المصرفية، يقول عن مسؤولية الأطراف الثلاثة في عملية الإنقاذ، "المسؤولية يجب أن تكون مشتركة، إذ تقع المسؤولية الكبرى على الحكومة، التي تعنى بجميع القرارات التي تلزم جميع الأطراف، وعليها أن تأخذ دورها في مراقبة مصرف لبنان والمصارف"، أما عن مصرف لبنان، "فيلعب الدور الأكبر لأن مهمة المصرف العامة بناء للمادة 70 من قانون النقد والتسليف المعدلة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم بشكل خاص"، وبالنسبة للمصارف، "يعتبر واجباً عليها تطبيق تعاميم مصرف لبنان بحرفيتها. وما تقوم به المصارف اليوم استنساب التعاميم وإساءة تطبيقها، لذلك على المصارف اللبنانية ليس الالتزام فقط بقانون النقد والتسليف بل بقانون العقوبات اللبناني وقانون التجارة اللبناني، ما يعني ألا تجري خروقات بالتعامل المصرفي، "الأمر الذي يحصل اليوم".

ويرى زبيب أن النهوض بالاقتصاد مجدداً يحتاج لتعاون مطلق بين الحكومة ومصرف لبنان والمصارف، من خلال حكم القانون ومن خلال الدفع باتجاه مجلس النواب للقيام بعدد من التعديلات المهمة للقوانين الموجودة حالياً، على سبيل المثال لا الحصر قانون الإثراء غير المشروع والذي يعتبر غير كاف".

وللخروج من الركود الاقتصادي ومن الأوضاع المستجدة جراء تفشي وباء كورونا، يقول زبيب "المصارف شاركت بشكل ممنهج بزيادة تبعات الوضع الاقتصادي، من خلال سوء إدارتها للأزمة النقدية، لكنها لا تلام بشكل انفرادي، لأن اللوم يقع على الطبقة السياسية"، ومع هذا قررت المصارف أن تقوم بعملية إقراض واسعة للدولة اللبنانية وهي دولة بحكم المتعثرة والمفلسة، وبالوقت نفسه، وعند أول مفترق استغنت المصارف عن العلاقة مع الزبائن من خلال عملية حجز الأموال، ومن خلال عملية استنسابية بإخراج مبالغ هائلة لمنتفعين ومتمولين مقربين من المصرف ومن السياسيين، إضافة إلى هذا الأمر، وعند محاولة مصرف لبنان إصدار بعض التعاميم غير الكافية، قامت المصارف بإساءة تطبيق هذه التعاميم، خصوصاً التعميم رقم 148 الذي يتعلق بالإيداعات الصغيرة تحت ثلاثة آلاف دولار أو خمسة ملايين ليرة لبنانية، وقامت بإغلاق الحسابات المستفيدة من هذا التعميم.
معاقبة المصارف

بالتالي ضربت مبدأ الشمول المالي الذي يعتبر في صلب العمل المصرفي، وشكلت إقصاء غير مقبول للسواد الأعظم من الشعب اللبناني، "لذا على المصارف التعويض عما اقترفته عبر محاولة خلق "منتجات" لم تكن موجودة، مثلاً رفع سقوف السحوبات المالية، ومعلوم أن الدولار غير متوافر، لكن على الأقل تسديد قيمة السحوبات بسعر السوق وليس بمبلغ 3000 ليرة أي ما يعادل بخسارة حوالى 28 في المئة من قيمة العملة. بكل بساطة على المصارف أن تلتزم بالقانون بهدف الخروج من الركود".

وبالنسبة للتبعات القانونية على المصارف إذا لم تلتزم بتطبيق أو تنفيذ تعاميم مصرف لبنان، يشرح زبيب "أن المادة 140 المعدلة وفقاً للمرسوم الاشتراعي 41 بتاريخ 1967 تنص على شطب كل مصرف من لائحة المصارف إذا وضع قيد التصفية، أو إذا صرّح هو بذاته أنه في حالة التوقف عن الدفع. ما يعنينا هو فقرة التصريح بالتوقف عن الدفع، قانوناً، المصارف لم تصرح بل تهربت عندما رفضت أن تعطي للمودع أمواله، عوضاً عن ذلك أعطته شيكات مصرفية".

أما النقطة الثالثة من المادة 140 إذاً تبين للهيئة المصرفية العليا أن أحد المصارف لم يعد بوضع يمكّنه من متابعة أعماله، "فهذا ينطبق على عدد كبير جداً من المصارف في لبنان، ولو كانت تلك الهيئة تقوم بواجباتها لكانت ببساطة قررت شطبها، علماً أن حاكم المصرف المركزي له الحق فقط بالتنبيه، أما بقية العقوبات المنصوص عنها في المادة 208 فلا يمكنه أن يقوم بها بشكل انفرادي، بل لا بد أن تقرر هذه العقوبات من قبل تلك الهيئة، بالتالي نظراً لعدم وجود مجلس مركزي وعدم قيام الهيئة المصرفية العليا بواجباتها يتعذر معاقبة المصارف المخالفة".

* نقلا عن "اندبندت عربية"

حول الموقع

سام برس