سام برس
تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

بقلم / كريم عبدالله – بغداد – العراق

شعريّةُ الذاكرة في القصيدة السرديّة التعبيريّة .

أولاً : الذاكرة الشعريّة ( البوليفونية وتعدد الأصوات ) عند الشاعرة : جميلة مزرعاني – لبنان / الجنوب - خيط من الماضي يومض ...


يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم .

واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر .

انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة .

انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .

وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدة السرديّة التعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015 ,اعلنا فيه عن ولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما أنتشرت على مساحة واسعة من أرضنا العربية ثم ما لبثت أنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وأنبرى لها كتّاب كانوا أوفياء لها وأثبتوا جدارتهم في كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الأنتشار وأنطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية . فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدة الجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميع شعرية في أميركا والهند وافريقيا واميركا اللاتينية وأوربا وصار لها روّاد وعشّاق يدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتها ويحافظون على تطويرها .

سنتحدث تباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبما يُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديد الأدبيّة – الفرع العربي , ولتكن هذه المقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليق بعيدا في سماوات السردية التعبيرية .

أنّ الذاكرة هي المخزن الآمن والبعيد لآلآف الذكريات التي مرّت عينا , وهناك ذاكرة نشطة وأخرى خاملة , فالذاكرة النشطة هي التي تمتلكها الذات الشاعرة وبمقدورها أن تستحضر تلك الذكريات القديمة الغافية على ضفافها , وبثّ الروح فيها من جديد في الزمن الحالي , هي لحظة الأمساك بالزمن الماضي والعودة به الى الزمن الحاضر من أجل فكرة معينة , او موقف معين , أو الأستشهاد بهذه الذكريات لغاية ما .



أولاً : الذاكرة الشعريّة ( البوليفونية وتعدد الأصوات ) عند الشاعرة : جميلة مزرعاني - خيط من الماضي يومض ...



أنّ ما يميّز هذا النصّ هو ( التسجيل الصوتي ) حيث قامت الذاكرة هنا بتسجيل بعض الصور والذكريات ( الحسيّة والبصريّة ) , تلك الذكريات الأثيرية التي تقودنا الى زمن الطفولة والبراءة والنقاء , وخلق جوّ عاطفي يستثيرنا بكلّ تفاصيله . هذا من جهة , ومن جهة اخرى يمتاز هذا النصّ بلغته البوليفونية وتعدد الأصوات فيه , كلّ هذا كان بفضل اللغة السرديّة التعبيريّة المذهلة , ومن خلال اللغة السرديّة التعبيريّة تتجلّى بوضوح البوليفونية وتتعدد الأصوات وكثيرا ما يختفي صوت الشاعر وراء الأفكار والرؤى والصور المتعددة . في البوليفونية يتحرر النصّ من سطوة الشاعر و وتُطرح هذه الأفكار والرؤى والابديدلوجيات بشكل حرّ وحيادي , وكذلك تتعدد أساليب التعبير والشخوص , بل وحتى الأجناس الأدبية في النصّ الواحد , وهذا ما لمسناه بوضوح في نصّ الشاعرة : جميلة مزرعاني – خيط من الماضي يومض ) . في السردية التعبيرية فأن الأنحراف والخروج عن المعايير اللغوية يمكّن من توسعة الشخصية النصّية لتتعدى الشخصية الواقعية والمعهودة الى ما يمكن ان نسميه ( الشخصية النصّية ) . لقد تجلّت البوليفونية في هذا النصّ من خلال هذه المقاطع النصيّة / تعالى الصوت المتهدّج مدوّيًا في فيافي ذاكرتي يصدح من غربة بعيييييييدة : الحياة يا أحفادي شقاء لأجل البقاء / وكذلك / ردّني الصدى إلى خيط من الماضي حين كنّا نلتفّ حولها كالعقد المرصوص نصغي بصمت مطبق / وكذلك / فيثير كلامها تساؤلنا بلثغة الطفولة عن معنى الشقاء ( الثقاء) تجيب بحسرة وعينين مثقلتين بالهموم : غدًا حين تكبرون ستعرفون وسرعان ما تغتال نظراتنا حكاياها المشوّقة / وكذلك / كنّا نصرخ بأعلى أصواتنا هاتفين / تهمس قائلة : إخفضوا أصواتكم وأنتم تتحدّثون / وكذلك / يسألها صغيرنا : لماذا يا جدّتي ؟ / وايضا / يا لك من عفريت صغير / وتردف قائلة : قدّو قد الفارة وصوتو ملّا الحارة / وكذلك / سوط الوالد ينهال علينا ضربًا تأديبًا وتأنيبًا من سوء سلوك أو تأخّر مدرسيّ / . وايضا تتعدد الشخوص النصيّة في هذا النصّ ونلاحظ ذلك في الشخصيات التالية وهي تتحاور بحرّية وعفوية دون تدخل الذات الشاعرة , فنجد شخصية / الجدّة / والذات الشاعرة / والأحفاد / صوت الطفل الصغير / الوالد / . لقد استطاعت الشاعرة ومن خلال هذا النصّ البوليفوني المتعدد الأصوات أن تلتقط وتستحضر من ذاكرتها البعيدة الكثير من الأحداث الأثيرية والتى تركت أثرها الواضح في حياتها منذ الولادة والى هذه اللحظة التي تعيشها , حتى يبدو لنا وكأنّها ( الذات الشاعرة ) تتخيّل وبوضوح وتعيش تلك الأجواء والأحداث بتفاصيلها الدقيقة وشخصياتها المتعددة , وكاننا نسمع هذه الأصوات المتعددة التي تضجّ في هذا النصّ , وكأنّ ذاكرتها استطاعت ان تحرّك شريطا سينمائيا , فحذفت منه الذكريات الغير مهمة والتي قد تجعل منه مترهّلاً , وحاولت تعضيد الأحداث المهمة والتي تتناسب مع أجواء وفكرة النصّ لغرض توظيفها داخل نسيجها الشعري , وربط هذه الأحداث مع بعضها البعض وتوحيدها وجعهلها قطعة متماسكة من الذكريات , مما جعل المتلقي يعيش داخل النصّ ويستشعر بالأجواء فيه ويتملس هذه الأصوات ويستمع اليها بوضوح , ويعود من خلال هذا النصّ الى تلك الكتلة المتوهّجة من الزمن والذكريات والشخصيات .

النصّ :

خيط من الماضي يومض ...

تعالى الصوت المتهدّج مدوّيًا في فيافي ذاكرتي يصدح من غربة بعيييييييدة : الحياة يا أحفادي شقاء لأجل البقاء ، ردّني الصدى إلى خيط من الماضي حين كنّا نلتفّ حولها كالعقد المرصوص نصغي بصمت مطبق فيثير كلامها تساؤلنا بلثغة الطفولة عن معنى الشقاء ( الثقاء) تجيب بحسرة وعينين مثقلتين بالهموم : غدًا حين تكبرون ستعرفون وسرعان ما تغتال نظراتنا حكاياها المشوّقة ، يرشق تنصّتنا عطر رذاذ سردها الممتع ونحن على أحرّ من الجمر لنقبض على النهاية المرجوّة ، وكثيرًا ما كانت تعلّق سردها إلى يوم آخر هادفة إلى تشويقنا وترغيبنا للوصول بنا إلى عالم الخيال الجميل فتتحفنا في ختام كلّ حكاية بمثل شائع يؤرّخ في خاطرتنا بدائع الأدب الشعبيّ كنّا نصرخ بأعلى أصواتنا هاتفين تهمس قائلة : إخفضوا أصواتكم وأنتم تتحدّثون ، يسألها صغيرنا : لماذا يا جدّتي ؟ يا لك من عفريت صغير وتردف قائلة : قدّو قد الفارة وصوتو ملّا الحارة ، فنغيب في ضحكة طويلة لا تنتهي ونأوي إلى أفرشتنا الوثيرة نغالب النعاس وبريق أعيننا يحتضر على وسادة المنام .آه من جدّتي لأبي كانت تساكننا منذ وفاة جدّي رحمه الله كان للحياة طعم آخر بنكهة الحبّ الشهيّ فهي الحامية من سوط الوالد ينهال علينا ضربًا تأديبًا وتأنيبًا من سوء سلوك أو تأخّر مدرسيّ فتغمرنا بكلتي راحتيها نلوذ بحضنها الدافئ من عقاب قاس ننجو بأنفسنا من ثورته العارمة فتبادلنا النظرات ببسمة المنتصر المنقذ من الهلاك . كم هي جدّتي وجه الخير والرحمة والحنان ، تركت فينا مخزونًا من القصّ الجميل ما يزال راسخًا حتى اليوم كالنقش في الحجر .

جميلة مزرعاني

لبنان / الجنوب

حول الموقع

سام برس