سام برس/ تونس/ شمس الدين العوني
الشعر هذي الأكوان الضاجة بما هي ألوان الذكرى ...أو بشيء منها...

الشعر...هذا الآخذ بالدواخل و الشواسع يقتحم الوجود بالأمكنة و التفاصيل و العناصر و هي تنحت ظلالها قولا بالكينونة و تقصدا لرسم ذات كما بدت لتصير كما يرام لها ..الشعر في هذا المعترك يبتكر ازميله و معاوله و خيال كائناته في هذا الكمالمفتوح و المتراكم من المعاني و الكلمات متعددة الدلالات و المرامي..
ثمة نهر من الحنين..ثمة أمنيات جمة..ثمة ذاكرة تملي كنهها على الشاعر تدعوه للأخذ بناصيتها طوها و كرها..كتابة و محوا..و نظرا و نسيانا..

الذاكرة من الألوان المؤثرة في الشهر ..في الكتابة عموما باعتبار ما تحمله في كونها الجزء الهام في مكونات الذات في علاقاتها بالآخرين ..و منهم حضرة السيد الزمن..

زمن و أزمنة تنحت أفعالها في اليومي المتراكم الذي تتغذى منه اللحظة الابداعية..و منها لحظة الكتابة..
ماذا تفعل الذات الشاعرة تجاه الذاكرة كمعطى ثقافي شعري بالأساس..كيف تقيم القصيدة علاقاتها مع السيدة الذاكرة و هي تنكتب ..

الشعر و الذاكرة..هذا ما يقودنا الى طرحه و تذكر أسئلته الديوان الشعري الصادر مؤخرا بالقاهرة ...في هذه الرحلة المفتوحة على الكتابة و المفتونة بها منذ كتابها الأول " غواية السكين "..

هذا الديوان هو للشاعرة المجتهدة و الاعلامية و عنوانه " شيء من الذاكرة " و في حوالي 95 صفحة من القطع المتوسط و عن دار الأديب للنشر والتوزيع بالقاهرة..الشاعرة ابتسام الخميري ضمنت في عملها الشعري هذا أكثر من ثلاثين قصيدة بين النثري والحر والعمودي و من القصائد نذكر " شيء من الذاكرة " و " ارهاصات الزمن الآفل " و " لذة الاشتهاء " و " الأفعى الغربة " و " تراتيل الوجد الآبق " و " حديث إلى والدي" و " ربما " و " على سطر الحياة " و " على قارعة المصير " و " لست أغار" / و " ولي صور أخرى " و " اجهاض على رخام العشق " و " المساء الأخير " و " إلى عليسه " و " انبهار الأريج و " و " بوابات أخرى.. للحياة و " عبق الحياة " و " فلنغني للحياة " و " همس الاشتياق " و " مرافئ الوجد " و " نداء وعوي " و " إلى درة في الوجود " و " أهيم بوجدي " ...

قصائد تمضي الى الحال فيحلها و ترحالها..في تشظيها الراهن تقول بالذاكرة على سبيل السلوى و هنا تتداخل تلوينات الشجن بالحلم و الرومانطيقية و الألم المعطر بالأمل ...و هكذا..هي فوضى العوالم تبتكر كلماتها في شيئ من هدوء القصائد الضاجة بالذات الشاعرة و هي تنشد خلاصها الشعري و بالكتابة و شؤونها و شجونها..
في هذا السياق نذكر قولة "بورخيس" في كون (الذاكرة ليست مجموعا، إنها فوضى بإمكانات لا نهائية)...و في حيز من هذه العلاقة بين الشعر و الذاكرة يقول الشاعر المغربي رشيد المومني في مداخلة له عن "الشعر والذاكرة في تفكيك الملتبس " و التي نشرت بصحيفة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 06 - 06 – 2014 " ... اشتغال كل من الشعر والذاكرة على أرضية استراتيجية مشتركة،تهدف إلى التخفيف من حدة العنف الوجودي والميتولوجي الناتج عن ذلك المحو المادي والرمزي الذي تمارسه وبإتقان تام آلة الزمن على الكائن،من خلال ميلهما معا -كل بطريقته الخاصة-إلى إنتاج زمن مغاير،معزز بديناميته و حركيته،ومهيإ للديمومة،بفعل قابليته للاستعادة والمعايشة المتجددة،والمستندة على تملكه المضاعف لسلطتي التذكر والتخييل،بخلاف الزمن الطبيعي المتسم بصيرورة منذورة إلى زوالها في قلب منافي اللاعودة، التي هي المقابل الموضوعي لمدافن الماضي ، الشيء الذي يمنحنا الحق في القول إن زمن الذاكرة المستعاد، ومعه زمن الشعر، هما السكن الرمزي الذي تطمئن إليه الذات، كشكل من أشكال تسييج كينونتها وحمايتها من الفقد الجارف الذي يهدر به مجرى الزمن الطبيعي.وهي شبه قناعة تجعلنا نحسم باستحالة مقاربة كل من الشعر والذاكرة خارج مقولات الزمن ومنظوماته المتعددة...في السياق ذاته ،تجب الإشارة إلى حضور مسارين متقابلين،يمتد أحدهما من الشعر إلى الذاكرة التي تتكفل بضمان بقائه و استمراريته استنادا على عامل التجميع والتوثيق والتأريخ والتصنيف والتقييم،فيما يمتد المسار الثاني من الذاكرة إلى الشعر،حيث تتحقق عبره لعبة الإبداع الشعري التي تعتبر الذاكرة إحدى مصادرها الملتبسة،وإحدى أهم روافدها الأساسية المؤثرة في توفير إواليات وجودها وكينونتها.

وفي كلا المسارين،تأخذ الذاكرة شكل وسيط يقود الشعر إلى تلك الإقامة الآمنة التي تضمن له إمكانية حفظ ما تراكم لديه من ودائع قد تكون عرضة لضياعها، سواء في حالة غياب الدليل، أو في حالة ضياع المكان ذاته. كما تكون الذاكرة ذاتها،دليلَ كل شعر متوجس من قلق التيه إلى بوابة نجاته المحتجبة في مكان ما بخلفية ليل الغابة.في ضوء هذه الاحتمالات ربما، يكون استدعاء الذاكرة مطلبا حتميا،( .......) ذاكرة تجدد ذاتها بفتنة النسيان والفراغ والمحو والصمت أيضا. وليس ذاكرة معلبة مغلقة مستبدة بشلل الكائنات المتراكمة في دهاليزها القوطية البناء. أيضا يمكن القول ، في لحظة الكتابة، تختفي الذات دون أن تنمحي طبعا ،كما تختفي الذاكرة، الجسد والزمن،ولا يبقى هناك سوى تلك اليد الثالثة،التي تتخبط على بياض صفحة ممسوسة، بقسوة النسيان ولذته، أو هكذا يخيل لي....."

من هنا نجد هذه الخصوصيات في العلاقة بين الشعر و الذاكرة و التي يهم كل شاعر النظر اليها من زاويته الكتابية الخاصة حيث ذهبت الشاعرة ابتسام الخميري في هذه المجموهة التي نحن يصددها الى قول الذات و هي تفيد من ذاكرتها وفق كتابة شعرية تتنفس الحاضر بتفاصيله تبتكر له ذاكرته الآنية...هموم الكائن و أوجاع الوطن و الحلم المتعثر الآن وهنا ..
من ذاكرة السنين الى راهن الذاكرة حيث البحث في الدروب بين العناصر و التفاصيل
في قصيدة "شيء من الذاكرة "تقول :
" انتظرت ...
منذ آلاف السنين
و العمر يمضي
كسحابة وقت الهجير
هي
غيمة كانت هنا...
منذ آلاف السنين
....
و بحثت ...
بين أعشاش الطيور
بين أشجار الرياحين
و بين الجبال و السدود...
و صرخت
من رأى حلمي الوحيد
ها هنا... كان يغني للحياة
ها هنا... كان يرقص...."
في هذا العنفوان من الألم الكوني و القلق الانساني في كون متحول و عولمة شرسة تتهدد الالكائن في ألفته و هدوئه و ألوان خصوصباته و صوره الأخرى تمضي الشاعرة في قصائدها ديدنها نحت هيئات أخرى للأمل و الحرية و ممكنات المجد الانساني الوجداني لتنبثق الأغنيات من دروب القلق ..تقول الشاعرة الخميري في قصيدة "و لي صور أخرى"
"... كلما رقصت
أنبش جراحي
و تضيع أعنياتي...
.........
كلما أمطرت
تساقطت آلامي
وارتسمت آهاتي...
على ثوب القلق..."
هي الشاعرة تنبش في ذاكرة الوقت تعلن مسراتها ة آلامها وفي هذا الراهن تستعيد شيئا من الأمنية و الأغنية بين ثنايا الجمال و الرقص و الحلم...تبتكر أسماء دروبها و هي تخاطب عليسة..في قصيدة " الى عليسة" تقول الشاعرة ابتسام الخميري
".....أنت
جمال البقاء... و رقص الخواء
و برد ينز بحلمي...بدربي
و أنت الغناء..."

" شيء من الذاكرة "...القصائد بعين القلب و وجدان الحال...فنحن ازاء عمل هو بمثابة الكون الشعري لذات شاعرة تسافر في الدواخل و الشواسع بالكلمات تبتكر وفقها ايقاعها لتأخذنا طوعا و كرها الى شجنها و نواحها الخافت و هي تواصل طريقها المحفوفة بالشعر و قلقه الدائم حيث لا يقنع الشاعر بغير البحث و نشدان التجدد تقصدا لحياة تتجدد..مع كل صباح..

كلما أمطرت / تساقطت آلامي / و ارتسمت آهاتي / على ثوب القلق...فعلا هي صور أخرى من الشعر المسكون بالشجن و الذكرى..الشعر هذي الأكوان الضاجة بما هي ألوان الذكرى ...أو بشيء منها...من الذكرى..

تجربة صادقة مميزة حيث الشعر هذا الترجمان النادر تجاه العناصر و الأشياء يحاورها الشاعر و يحاولها نحتا للهبوب و الخلاص في كون مربك يطلب فيما يطلب شيئا من الذاكرة على سبيل العزاء و السلوى....الحلم..نعم الحلم ديدن الشاعر في حله و ترحاله الملونين بالىه و الشجن المبين..مرحى للقصائد تكتب الذات بل تدعوها للأمل و الانطلاق الجديد و لا مجال لغير الحلم الدفين المتجدد و للذكرى..

حول الموقع

سام برس