بقلم/مصطفى الفقي
كلما حل الخامس والعشرين من يناير أتذكر أحداث عام 2011 وما بعدها، وأشعر أن الأمر لم يأخذ حقه بشكلٍ كافٍ من التحقيق والدراسة بل والتأمل، ذلك أن الحشد الذى انتظم فى ميدان التحرير بالقاهرة بنداءات الكترونية جعلت ذلك الحشد الكبير تجمعًا ضخمًا بلا برنامج أو قيادة، فالكل جاء مدفوعًا برفضٍ لما هو قائم مع رغبة عارمة فى التغيير وفقًا لمطالب شعبية تتصل بشعورٍ عام ناقم على الأوضاع التى آلت إليها البلاد فى تلك الظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد، والملاحظ هنا أن ذلك الغليان الشعبى شاركت فيه كل الفئات بما فى ذلك القوات المسلحة التى لم تكن راضيةً عن تردى الحال العام، والحديث عن توريث السلطة كما كان شائعًا وقتها، وكلنا نعلم أن ما بدأ فى 25 يناير كان فورانا شعبيًا عارمًا ولكن ليس له قيادة واضحة ولا برنامج إصلاحى محدد، فلقد كان الهدف هو الخلاص مما تعيش فيه البلاد وبدء مرحلة قادمة تسعى قوى مختلفة لتلقفها، ولذلك فإن تعبير «ثورة» الذى يرتبط بتنظيم معين وبرنامج محدد لاينطبق بدقة على ما جرى فى ذلك الوقت، إذ إن ما حدث كان انفجارًا تلقائيًا تقف وراءه شحنات من الغضب وزخات من المشاعر الملتهبة، فضلاً عن نوايا طيبة فى مجملها، ولست أشك فى أن حشود الميدان فى ذلك الوقت قد احتوت بعض العناصر الأجنبية أو المصرية الطامعة فى الحكم بلا حق، لذلك جاءت جماعة الإخوان المسلمين لتتصدر المشهد وتزعم فى البداية أنها لن ترشح رئيسًا للبلاد، ثم تقوم بعد ذلك بترشيح رئيس أساسى وآخر احتياطى آل إليه حكم مصر بعد شهورٍ من القلق والتوتر والغضب دفعت فيها الكنانة ثمنًا باهظًا، ولقد حاولت القوات المسلحة أن تضع سياجًا حصينًا يحمى المصريين وأن تقف حارسًا يقظًا للوطن وأبنائه، ولاشك أن هناك معلومات كثيرة مازالت غير واضحة بشأن ما جرى فى ذلك الوقت من تآمر على مصر داخليًا أو خارجيًا، ولاشك أيضًا أن التاريخ سوف يفصح بعد سنوات عن القوى التى تآمرت على مصر فى تلك الظروف الصعبة، ولولا أن الحشد الشعبى غير المسبوق فى الثلاثين من يونيو قد حسم الأمر بقرارات الثالث من يوليو التى أعلنها وزير الدفاع حينذاك عبد الفتاح السيسى لولا أن الأمر كذلك لكان لنا قول آخر ولدفعت مصر ثمنًا أفدح بكثيرٍ مما دفعت، إذ لم يكن هناك دولة قوية قادرة على حماية البلاد والعباد، ولنا هنا بعض الملاحظات حول المفهوم المعاصر لمدلول الثورة تطبيقًا على مصر فى العقود الأخيرة:

أولاً: إن الثورة مدلولٌ لا يتطابق بالضرورة مع مفهوم الإصلاح فالفارق كبير بينهما، إذ إن فقه الإصلاح يعتمد على برامج تقوم على التخطيط المسبق والدراسة الشاملة، بينما تختلف الثورة عن ذلك فى أنها عملية تغيير مفاجئ قد تتمكن من الاستيلاء على السلطة، ولكنها تحتاج إلى برنامج - إصلاحى أو ثورى – تقوم على تنفيذه وتعتبره خطة لعملها تقبل المحاسبة عليها، ولو أجرينا هذا المعيار على كثير من تعبيرات الثورة فى تاريخنا الحديث لوجدنا أن الأمر يختلف كثيرًا عما هو مستقر فى أذهاننا، فلقد أسرفنا كثيرًا فى استخدام تعبير ثورة بحق أو بغير حق، فالثورة تحتاج إلى برنامج إصلاحى له ظهير شعبى كبير وفى تلك الحالة يكون الحديث عن تعبير الثورة سليمًا وعادلاً.

ثانيًا: ترتبط الثورات تاريخيًا بزعامة لها إسهامٌ قوى فى تغيير الأوضاع وإصلاح الأمور، فضلاً عن أن تكون قدوة ذات حضورٍ جماهيرى مع خلو ملفها الشخصى من مظاهر الفساد والإهمال، وينطبق هذا الأمر على بعض الزعامات فى تاريخنا الحديث الذين لاتزال الجماهير ترفع صورهم فى المناسبات المختلفة رغم كل الانتقادات التى تعرضت لها تلك الزعامات بعد رحيلها، إذ لا يترسب فى ذاكرة الناس إلا نظافة اليد وطهارة الضمير، والشعور بانحياز الحاكم للأكثر عددًا والأشد فقرًا، ولعلنا نلاحظ أن شعارات 25 يناير لم تتضمن بندًا واحدًا فى السياسة الخارجية ولكنها اقتصرت على ما جرى فى الداخل خصوصًا مشكلات انخفاض الدخل وشيوع الفساد المالى والإدارى فضلاً عن انتشار المحسوبية والمحاباة والشخصنة، ويكفى أن نتذكر شعارات ميدان التحرير فى ذلك الوقت وهى (عيش، حرية، عدالة اجتماعية) والتى تعكس معاناة الجماهير من مرارة الحياة وغياب العدل.

ثالثًا: إن خروج المصريين فى الثلاثين من يونيو 2013 رجالاً ونساءً، مسلمين وأقباطًا بذلك الزخم الجماهيرى الضخم الذى التفت حوله القوات المسلحة المصرية التى أعلنت منذ اللحظات الأولى انحيازها لصفوف الجماهير وحرصها على دماء المصريين، كان ما جرى فى الثالث من يوليو انعكاسا مباشرا للديمقراطية الحقيقية التى تعتمد على أول درجة ولا تكتفى بمجرد التمثيل النيابى بل تبدأ العملية الديمقراطية من قاعدتها الجماهيرية الكبرى، شأنها شأن الجمعية العمومية للشركات والهيئات فى أن قراراتها أقوى من مجالس الإدارات المنتخبة، فالقاعدة الأصلية هى بالرجوع إلى أصحاب المصلحة المباشرة وهم جماهير الشعب بلا جدال.

.. أردنا من هذه السطور أن نوضح كيف تكون الثورة ذات مضمونٍ يشير إليها ومحتوى يحافظ عليها، واضعين فى الاعتبار أن الإصلاح فى النهاية هو سيد الموقف وهو الفيصل فى تقويم ما جرى.

* نقلا عن "الأهرام"

حول الموقع

سام برس