بقلم/ محمد صلاح
لو كان القيادي "الإخواني"، إبراهيم منير، خرج على الناس معتذراً عن جرائم التنظيم الإرهابي ومعلناً حل الجماعة، طالباً العفو من الشعب المصري وباقي الشعوب التي أجرم "الإخوان" بحقها، لأمكننا مناقشة الأمر وسرد الأسباب التي دفعت الجماعة للوصول الى تلك النتيجة بعد سنوات من الصراع على السلطة والتحالف مع الأعداء والتآمر على الحكام والشعوب، لكن منير اعتبر وهو يلقي بتصريحه الذي روجت منصات التنظيم له بكثافة أنه يفجر مفاجأة بينما كل من قرأ التصريح أو سمع الكلام استعاد على الفور تاريخ "الإخوان" الدموي ومحاولاتهم دائماً اللجوء الى الحيلة واتباع التقية للهروب من كل مأزق او الاحتيال على الناس.

اللافت أن منير نفسه مجرد نصف مرشد، فهو يتزعم جناحاً لـ"الإخوان" مركزه العاصمة البريطانية لندن، بينما هناك نصف مرشد آخر مقيم في إسطنبول هو مصطفى طلبة ويتزعم النصف الآخر من التنظيم. وفي إطار الصراع بين الطرفين خرج منير معتقداً أنه سيعيد نصف الجماعة الى المسرح السياسي مرة أخرى بتأكيده أنها "لن تخوض صراعاً جديداً على السلطة" زاعماً "رفض الجماعة استخدام العنف والسلاح لمواجهة النظام"، وقال: "نرفض العنف تماماً ونعتبره خارج فكر جماعة "الإخوان المسلمين"... ليس فقط أن نستخدم العنف أو السلاح بل حتى أن يكون هناك صراع على الحكم في مصر بأي صورة من الصور".
وأضاف: "حتى لو الصراع بين الأحزاب في الانتخابات السياسية أو غيرها التي تديرها الدولة، هذه الأمور عندنا مرفوضة تماماً ولا نقبلها".

وتابع منير أن "جماعة الإخوان المسلمين مرت بأوقات عصيبة من قبل ولكن بالتأكيد هذه المرة أقسى من كل المرات الماضية ومن كل المحن الماضية التي شهدتها منذ تأسيسها قبل ما يربو على 90 عاماً". وختم "أن الحركة التي أقامت على مدى عقود في مصر شبكة من المنظمات الخيرية، لا تزال تتمتع بتعاطف كثيرين من سكان البلاد البالغ عددهم 102 مليوني نسمة".

المؤكد أن الجمود الفكري والسياسي للجماعة واهتمامها الشديد بالتنظيم والتمويل على حساب التجديد في الأفكار والبرامج والسياسات ساهم في تعميق أزمتها الهيكلية ثم الفشل في التأثير في الرأي العام المصري الذي اكتشف حقيقة "الإخوان" كتنظيم يوظف الدين ولا يهتم بمشكلات الشعب أو أولويات الديموقراطية والعدالة والأمن القومي في صراعه من أجل الوصول الى السلطة، وأظهرت تصريحات منير الى أي مدى يحاول "الإخوان" إنكار الحقائق في أرض الواقع حتى لو حاول إظهار غير ذلك.

لم يعتذر القيادي "الإخواني" عن أخطاء التنظيم في الحكم، أو عن محاولات ضرب الاستقرار وممارسة الإرهاب والقتل ونسف أبراج الكهرباء وقطع الطرق، ما كان يزيد من معاناة المصريين عامي 2013 و 2014، ولم يبدِ ندماً على مساندة العمليات الإرهابية في سيناء وداخل مصر، أو تورط التنظيم في زرع عبوات ناسفة ضد بعض مؤسسات ورموز الدولة والتي سقط بنتيجتها أطفال ومواطنون أبرياء.

يدرك المتابعون لنشاط التنظيم الإرهابي أن الفشل المتعدد الوجوه والمستويات داخل الجماعة تفاعل مع الجمود الفكري والتنظيمي وأسفر عن خلافات وانشقاقات عديدة داخل الجماعة، لأسباب مختلفة، بعضها سياسي ومالي واداري وتنظيمي وشخصي، وعمق من هذه الخلافات والصراعات ارتماء أطراف الصراع "الإخواني" الداخلي في أحضان أطراف خارجية من ناحية، وفي أحضان الجماعات الإرهابية المتشددة في سيناء وداخل مصر من ناحية أخرى.

كلام منير يتسق تماماً مع خطب ورسائل مؤسس الجماعة حسن البنا التي تشكل اسس فكر الجماعة، بسماته الهيكلية من جمود، وغموض، وتركيز علي التنظيم والوحدة والتماسك، إضافة الي البراغماتية الشديدة، فالبنا حين اشتد على جماعته الحصار عقب قيام التنظيم السري للجماعة باغتيال القاضي أحمد الخازندار ورئيس الوزراء النقراشي باشا، خرج على الناس وباع عناصره مؤكداً أنهم "ليسوا إخواناً ولا مسلمين" فهو لم يكن مفكراً اسلامياً او صاحب اجتهادات فقهية مهمة بل كان رجل حركة وتنظيم وحشد امتلك مهارات عالية مكنته من انتاج خطاب مؤثر للغاية في اعضاء جماعته وأنصاره والمتعاطفين معه.

اثبت صراع "الإخوان" مع مصر أن قوة مؤسسات الدولة المصرية ونجاحها في إنجاز مشاريع التنمية وخفض معدلات الفقر والتهميش الاجتماعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية والتحول الديموقراطي، ساهم في تحديد سيناريوات مستقبل جماعة "الإخوان المسلمين"، لأن من شأن نجاح مشاريع التنمية تجفيف البيئات الحاضنة لـ"الإخوان"، وكل التوقعات لمستقبل مصر لا يمكن أن تسمح بعودة "الإخوان" كما عادوا في أواخر السبعينات من القرن الماضي، او باستعادة قوتهم وأنشطتهم ومشاركتهم المراوغة في البرلمان والنظام السياسي والحياة الاقتصادية كما كانت عليه أيام حكم مبارك، بعدما ظهر على أرض الواقع إصرار "الإخوان" على السيطرة على مفاصل الدولة في ما يُعرف بمشروع التمكين أو "الأخونة". وبينما فشلت جهود "الإخوان" في اختراق المؤسسة العسكرية وأجهزتها الأمنية والقضاء، رغم محاولاتهم اختراقها وتغيير طبيعة السلطة القضائية من خلال إعداد مشروع قانون بخفض سن الإحالة الى التقاعد من 70 الى 60 عاماً، ما نجم عنه عزل حوالى 3500 قاضٍ، لكن هذا التسرع في ظل عدم توافر كوادر "إخوانية" مؤهله لشغل هذه المناصب ولد ارتباكات ومعارضة واسعه معلنة في مؤسسات الدولة وفي الشارع ايضاً.

ربما استعاد إبراهيم منير، في محاولته العودة بالجماعة الى واجهة الأحداث، أفكار المعاناة والبلاء من التاريخ الإسلامي، وادعاء "الإخوان" التماهي مع الصحابة الأوائل، في ضرورة الصبر والعمل حتى تحقيق النصر، لأنهم المسلمون الاتقياء، المكلفون بنهضة الأمة وتمكين المشروع الإسلامي!. هكذا دأب "الإخوان" على توظيف التاريخ الإسلامي ضمن أيديولوجية التنظيم، بينما كل من تعامل معهم أثناء فترة حكمهم لمصر أدرك أن أحد أهم أسباب فشل حكمهم هو قناعتهم الزائفة بأنهم من القوة والتأثير بحيث يصعب هزيمتهم أو الإطاحة بهم.

اختير ابراهيم منير المقيم منذ سنوات في لندن كأول مرشد، أو قل نصف مرشد للجماعة مقيم في خارج مصر، وهو رجل قوي محسوب على التيار القطبي في الجماعة، فقد كان المتهم الرقم 30 في لائحة قضية تنظيم "الإخوان" العام 1965، وهو شغل نائب مرشد "الإخوان" والأمين العام للتنظيم الدولي ويعتبر من المنتمين الى التيار القطبي داخل التنظيم ولديه خبرات واسعة في سيناريوات المصالحة بين "الإخوان" والسادات.

حتى قبل ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 شهدت العلاقة بين "الإخوان" والحكم صراعات ومواجهات وصلت إلى حد تحول الجماعة إلى العنف والإرهاب والاغتيالات، لكن التنظيم بقي يتعامل مع واقع، ويتعاطى مع الحكم بحسب موازين القوى في المجتمع، ويدرك حجمه بالنسبة لمؤسسات الدولة ووزنه بالنسبة للشارع وتأثيره فيه. وحتى في صدام "الإخوان" مع العهد الناصري ظلت الجماعة تناور أحياناً، وتتحالف في أحيان أخرى، وتصطدم حين تجد أن لا أمل في المشاركة في الحكم، وتضرب حين تصل إلى مرحلة يأس، لكن قادتها احتفظوا بقدر من البراغماتية، وتعاملوا مع الواقع وخلصوا إلى أنهم مجرد "دعاة لا قضاة" بحسب الكتاب الشهير الذي وضعوه أثناء وجودهم في السجون، ربما لحرصهم على بقاء التنظيم رغم المحنة، أو مناورة منهم حتى تمر العاصفة وتتغير الظروف.

ربما تصور منير ومن حوله أن الظروف تغيّرت مجدداً وحان الوقت للخروج من المحنة عبر محاولة مشابهة لتلك التي أطلقها عمر التلمساني ومصطفى مشهور والهضيبي من داخل السجون، وأفضت، بعد رحيل جمال عبد الناصر، إلى قرار أنور السادات بإطلاق "الإخوان" من السجون، لكن منير كان يتحدث من لندن وليس من داخل أي سجن في مصر، كما أن السادات قتل بواسطة تنظيم خرج من عباءة "الإخوان". أما عبدالفتاح السيسي فلا يفرّق كثيراً بين "الإخوان" و"داعش".

نقلاً عن النهار

حول الموقع

سام برس