بقلم/ فاروق جويدة
فى زمن الانقسامات كان هناك من نصب نفسه حارسا للوطنية ومدافعا عنها رغم أن الوطنية ليست أوسمة يوزعها البعض ويهديها لمن يشاء ويحرم منها من يشاء .. كم من الجرائم التى ارتكبها البعض باسم الوطنية وكم من البطولات التى اختفت فى سوق المزايدات ولم يعترف بها أحد .. وفى التاريخ ما أكثر مدعى الوطنية الذين أخذوا ما لا يستحقون وما أكثر الذين تاجروا بها وتصدروا الصفوف والمسيرات .. فى تاريخ الشعوب, رموز كانت نماذج فى الوطنية وأهملها الزمن ولم تأخذ حقها من التكريم..

ــــ ومن هنا يطرح السؤال نفسه ما هى سمات الوطنية التى يستحق حاملها أن يقال إنه كان وطنيا وماذا لو اختلف الناس عليه .. إن أحمد عرابى كان بطلا مصريا فى نظر البعض وكان سببا فى كارثة الاحتلال الإنجليزى فى نظر البعض الآخر وأن طه حسين كان مغامرا فى كتابه «الشعر الجاهلى» وكان حكيما فى دعوته لمجانية التعليم.. وفى عصرنا الحديث اختلف الناس كثيرا حول رموز كثيرة فى كل المجالات .. والشيء المؤكد أن هناك أسبابا كثيرة كانت وراء توزيع صكوك الوطنية كان أخطرها الانقسامات السياسية وقد استغلتها جهات كثيرة لتحقيق المكاسب تحت دعوى إنها تخدم الوطن وتمارس السياسة دفاعا عن حقوق الشعب.. وقد ظهرت هذه القوى فى عهود الاحتلال واتخذت من مقاومته سببا ومبررا لأن تتصدر الصفوف وترفع رايات الاستقلال .. وهنا ظهرت الزعامات السياسية وفرق من الأحزاب والقوى السياسية التى شقت طريقها فى الصفوف تحت دعوى إنها الأكثر وطنية وعطاء وولاء ..

ـــ وكانت السياسة هى المدار الذى تخفى خلفه البعض لتحقيق المصالح بكل أشكالها وأساليبها .. وهنا ظهرت صكوك الوطنية السياسية التى خلقت طائفة من المنتفعين فى كل العصور ابتداء بالأحزاب السياسية وانتهاء بالتجمعات الفئوية وكانت السياسة أول من مهد لصكوك الوطنية المزيفة .. كان من الضرورى أن تكون صكوك السياسة بداية الطريق إلى ظهور صكوك المصالح وهنا كانت رحلة الزواج الباطل بين رأس المال والسياسة وتحولت القوى السياسية من حملة صكوكا الوطنية إلى صكوك مالية .. وهنا كان اللقاء التاريخى بين السياسة ورأس المال..

ــــ وكان اجتماع المال والسياسة أخطر ظواهر التراجع أمام تهميش جميع القوى الأخرى .. كانت لعنة الانقسامات هى أخطر النتائج التى تركتها صكوك الوطنية على وجه المجتمع حين انقسم على نفسه إلى أهل الثقة وأهل الخبرة وتم تهميش رموز كثيرة كان من حقها أن تتصدر المشهد كفاءة وتجردا ووطنية .. وكان هذا بداية حالة من الخلل الاجتماعى وغياب العدالة بين أبناء الوطن الواحد وأصبح لكل عصر صكوكه التى يوزعها على مريديه وأنصاره .. ولا شك أن ذلك كان سببا فى انسحاب قدرات ومواهب كثيرة فضلت أن تعيش فى الظل بعيدا عن مضاربات صكوك الوطنية وحساباتها..

ــــ كانت حالة الانقسام التى فرقت أبناء الشعب وجعلت منهم الأعداء والأصدقاء رغم أنهم شركاء وطن واحد قد تركت آثارها على حياة الناس وأحلامهم.. وكانت الهجرة من الآثار السلبية التى جعلت حشودا كثيرة منهم تفضل الرحيل فى الوقت الذى أصبح المجتمع يفتقد العدالة فى توزيع فرص التفوق بين أبنائه نجد كل يوم إجراءات تحت دعاوى تشجيع الاستثمار تصدرها الدولة تعطى الأجانب حق الإقامة فى مصر مقابل تحويل مبلغ من المال أو شراء مسكن دون أن تكون هناك إجراءات قانونية أو إدارية رغم أن هناك آلاف الإجراءات المطلوبة من المصريين فى الخارج الراغبين فى شراء العقارات أو استثمار أموالهم فى مصر.. الخلاصة أن صكوك الوطنية ليست من حق أحد لأن الوطن للجميع ومن الخطأ أن ينصب أحد نفسه حارسا للوطنية أو حاملا لصكوكها.

ــــ إن انقسامات الفكر والمواقف وحالة التشرذم فى صفوف النخبة المصرية كانت على حساب دور مصر الثقافى وهى من ضحايا صكوك الوطنية التى يوزعها البعض لأسباب سياسية واقتصادية.. كان تهميش طوائف اجتماعية وحرمانها من ممارسة حقوقها السياسية يتعارض مع ثوابت كثيرة فى منظومة حقوق الإنسان.. فكان أن فقدت تجمعات مهنية وفئوية كثيرة تأثيرها ومن أهمها النقابات المهنية واتحادات الطلاب وهى جهات تهمشت أدوارها تحت شعارات صكوك الوطنية.. لم يكن تأثير ظاهرة الصكوك على السياسة والفكر والاقتصاد فقط ولكنها قسمت الواقع الاجتماعى وشوهت ثوابته فى التفاوت الاجتماعى الرهيب بين من ملكوا كل شيء بدون وجه حق ومن تهمشوا فى كل شيء واقعا وحياة الحل أن تعود للإنسان قيمته ودوره فى ظل مجتمع لا يفرق بين أبنائه حتى ولو لم يكونوا من حملة صكوك الوطنية..

ــــ إن الفوارق الاجتماعية والتكتلات السياسية ونفوذ رأس المال كلها كانت نتيجة توزيع الأدوار والمواقف حسب الأهواء والمصالح وكانت سببا فى توزيع خاطئ للفرص حرم الكثير من الكفاءات أن تحصل على حقوقها أمام مجتمع يوزع كل شيء على الأهواء والمصالح .. وكانت البداية هذه الانقسامات التى جعلت البعض يتصدر المشهد دون حق أو قدرات وكانت صكوك الوطنية هى السبب فى كل هذه الظواهر المرضية التى لحقت بالمجتمع وفرقت أبناءه وأهدرت قيمة التميز والتفوق فيه..

ـــ لقد حرمت هذه الصكوك فى أزمنة كثيرة مواطنين أكفاء أن يأخذوا فرصا أفضل فى الحياة وأن تضيف قدراتهم ومواهبهم فرص التقدم .. ومنها انتشرت أمراض الشللية واللامبالاة وانتهت أسطورة الرجل المناسب فى المكان المناسب, وأصبح من السهل أن تتزاحم الفرص والنجاحات أمام إنسان محدود القيمة فى القدرات والمواهب .. إن الأزمة الحقيقية أن هذه الصكوك تأصلت فى المجتمعات وأصبحت لها مدارسها وثوابتها التى شوهت روح المجتمعات وحرمتها من أن تستعين بقدرات كل أبنائها وأن يكون النجاح بابا مفتوحا للجميع دون تميز وأن يتصدر المشهد أصحاب القدرات والمواهب..

نقلا عن الأهرام

حول الموقع

سام برس