بقلم/ عـــلاء ثابت
السؤال الذى ظل يلح على ذهنى أثناء زيارتى إلى بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبى قبل أسبوعين : ما أسباب الصعود السريع لليمين القومى المتطرف فى أوروبا، الذى يحظى الآن بثلث مقاعد البرلمان الأوروبي، ووصل إلى الحكم فى عدة بلدان منها إيطاليا والمجر وسلوفاكيا، ويشارك فى عدد آخر من حكومات ائتلافية، ويتقدم إلى الأمام فى الكثير من البلدان الأوروبية الأخرى، وبات على مقربة من الحكم فى أخرى؟ وما النتائج المتوقعة لصعود هذا اليمين القومي، سواء على سياسات أوروبا ومستقبلها وانعكاس ذلك على الوضع العالمي؟ وأسئلة أخرى كثيرة عن سبب العداء المستشرى للمهاجرين، سواء من ولدوا من آباء أجانب أو حتى الجيل الثالث للمهاجرين? ولماذا الإسلام يحتل المرتبة الأولى فى حملات الكراهية؟ وهل ينجح اليمين القومى فى تغيير وجه أوروبا، وأننا على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، يقودها اليمين القومى المتطرف? وماذا عن نتائجها وامتداداتها خارج أوروبا، خصوصا فى عالمنا العربي؟
كانت نقاشاتى مع عدد من البرلمانيين المنتمين للأحزاب اليمينية القومية من عدة بلدان أوروبية فرصة لكى أعثر على إجابات عن الكثير من الأسئلة من خلال من يتبنونها، وليس من قراءات حولها، فالتعرف عن قرب عادة ما يكون كاشفا عن أوجه لا تطولها البيانات الرسمية والبرامج الحزبية، التى تراعى دائما عددا من المحاذير والتوازنات.
الجانب المهم الذى يجب أن يكون واضحا أن الأحزاب اليمينية القومية ليست متماثلة فى توجهاتها، بل أحيانا تكون متباينة بل متعارضة، ومن الطبيعى أن يصبح العزف على وتر الهوية والتميز العرقي، على حساب الدعوة إلى وحدة أوروبا، وأن يصبح الانسحاب من الاتحاد الأوروبى موضوعا على جدول أعمال الأحزاب القومية اليمينية، وإن أجلت تلك الخطوة مؤقتا، خشية بعض التداعيات الاقتصادية وفقدان الدعم من الاتحاد الأوروبي، لكنه مطلب موجود لدى الكثير من تلك الأحزاب، بما يهدد وجود الاتحاد الأوروبي.
كما أن نمو المشاعر القومية يفتح المسار إلى الشيفونية القومية التى تؤدى إلى العنصرية، ورغم أن العنصرية قد عانت منها أوروبا، وكانت وبالا عليها، وتجلت فى النازية والفاشية وحركات قومية تدفع إلى الحروب، فما الداعى لتجربة ما تمت تجربته وحصد الويلات منه مجددا؟ لا يمكن أن نعزو الصعود السريع لليمين القومى الموصوم بالتطرف إلى عامل واحد، فهناك عوامل متداخلة دفعت اليمين القومى إلى الأمام، منها ما هو ثقافى يرتبط بالحفاظ على الهوية أمام موجة العولمة، وسيادة ثقافات الدول الأقوى وموجات الهجرة، وما هو اقتصادى وسياسي، ويأتى فشل الأحزاب التقليدية سواء من اليمين الليبرالى أو اليسار والوسط، ليدفع اليمين القومى بعد سلسلة من التراجع والعجز عن حل الأزمات الاقتصادية، وكانت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 واحدة من تلك الحوافز التى قفزت باليمين القومى عدة خطوات إلى الأمام، تعززت مع الأزمة الحادة التى واكبت تفشى جائحة كورونا، والتى كشفت عن ثغرات كبيرة فى المنظومة الصحية، بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الإغلاق وسلاسل الإنتاج، لكن كانت هناك ملاحظة مهمة أوردها عدد ممن التقيتهم، وهى أن كثيرا من الناس لمسوا تراجعا فى مستويات المعيشة بعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بينما كانت آمالهم كبيرة فى حدوث انتعاش قوى، مما تسبب فى حالة من الخذلان، وجدت ضالتها فى أفكار وشعارات اليمين القومي.
أكثر ما يقلقنى موجة العداء للمهاجرين والإسلام «الإسلاموفوبيا»، فمن يكره المهاجرين ويشعر بالاستعلاء عليهم، تنسحب كراهيته واستعلاؤه على البلاد التى أتوا منها، ويتعرضون للتمييز والتنمر والعنف، وشهدت بلدان أوروبية عمليات اعتداء على مهاجرين، أسفرت عن ضحايا، وحوادث حرق لنسخ من القرآن الكريم، وفى حالة وصول ممثلى هؤلاء إلى الحكم فإنهم سيمارسون سياسة خارجية معادية لنا، لكن هذا لا ينسحب على كل تلك الأحزاب وجماعات اليمين القومي، فهناك تفاوت فى درجة تطرفها، وهناك أحزاب وجماعات لها سياسات مختلفة، فالمجر وسلوفاكيا مقربتان من روسيا وترفضان قطع العلاقات معها، أو مساعدة أوكرانيا بالمال والسلاح، وتقران بحقوق الفلسطينيين، أى أن الأحزاب القومية اليمينية ليست لها سياسة خارجية جامعة، وتتباين أو تتعارض وفق رؤيتها ومصالحها القومية، وتختلف مع سياسة الاتحاد الأوروبي، لكن ما يجمع الأحزاب القومية اليمينية هو رفض وجود المهاجرين، وكانت أوروبا تشجع على الهجرة، خاصة أثناء وعقب الحرب العالمية الثانية، حيث كانت فى حاجة إلى المزيد من الرجال، سواء للاشتراك فى الحرب، للقتال إلى جانبها، أو للعمل فى المصانع والمزارع التى عانت من التجنيد الواسع للأيدى العاملة فى الحرب، وتوقف الكثير منها عن العمل، ولهذا رأت أن العمالة المهاجرة يمكن أن تعوض العجز الكبير فى الأيدى العاملة فى المصانع والمزارع، لكن تلك الحاجة تراجعت كثيرا، خاصة مع إدخال التكنولوجيا المتقدمة التى لا تحتاج إلا للقليل من الأيدى العاملة الماهرة، ومع ذلك لا يتفق اليمين القومى مع اليمين النيوليبرالى على سياسة هجرة واضحة، فهناك شركات تريد تشغيل عمالة وافدة بأجور زهيدة، وبالقليل من الامتيازات أو بدونها، حتى تحقق أرباحا أكبر وتستطيع منتجاتها المنافسة فى السوق العالمية، بينما يرى اليمين القومى أن المهاجرين يستولون على فرص العمل من مواطنى البلد المستقبل للمهاجرين، وأنهم وراء تراجع الأجور، ويرى فيهم منافسا يكنون له العداء، فهو الحلقة الأضعف التى يمكن أن تلحق بها كل الأوزار.
هناك تساؤلات مهمة حول مدى قدرة اليمين القومى على الاستمرار فى الصعود، ومدى قدرته على النجاح فى تحقيق برامجه الغامضة والمتضاربة، والتى تلعب على وتر المشاعر القومية والاستعلاء العنصري، لكنها غالبا لن تقوى على تحقيق نجاح فعلي، وهناك شكوك فى اجتياز الأزمات الاقتصادية، وغالبا ستلقى مصير تجربة بريطانيا، التى وعد فيها المحافظون اليمينيون بأن تحقق بريطانيا طفرة فى معدلات النمو والازدهار الاقتصادى إذا ما خرجت من الاتحاد الأوروبى «بريكست»، لكن ما حدث كان العكس، وتراجع الاقتصاد البريطاني، ومازال يعانى من أزمات حادة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وندم البريطانيون على الخروج، وتهاوت شعبية حزب المحافظين، وهذا المشهد يمكن أن يتكرر مع اليمين القومي، ويبحث الأوروبيون عن مخرج جديد وحقيقى من أزماتهم.
إن الواقع المتغير بسرعة فى أوروبا والعالم يحتم علينا دراسة تلك المتغيرات، والاستعداد للتعامل معها، وأولى المهام الملقاة على عاتقنا أن تعمل الدول العربية بما لها من مقومات وقدرات متنوعة على وضع التعاون العربى المشترك على رأس أولوياتها، وأن تعمل على توحيد صفوفها، وأن تواجه التحديات معا، بما يجنبها الكثير من الأضرار ويمنحها المزيد من القوة.
نقلاً عن الاهرام