بقلم/ حازم حسين
النزولُ فى الماء الساخن فجأة سيستدعى القفزَ لا إراديًّا إلى الخارج، أمَّا مُعايشته من البرودة إلى الغليان فقد تجلِبُ اطمئنانًا زائفًا وثباتًا قاتلاً؛ إذ تُقلِّصُ فُرصةَ استشعار الخطر والتعاطى معه. هذا مُلخَّص نظرية «الضُّفدع المَغلى» التى تتحدَّث عن أثر التغيُّرات البسيطة والمُتدرِّجة، وما تفعلُه من تنويمٍ للوعى وآليات المُقاومة بوَصفها فعلاً حيًّا بالأساس. وبعيدًا من أنها أقربُ لفرضيَّة لم تُختبَر عِلميًّا، أو يُرَدُّ عليها من البيولوجيِّين بالاستنكار والتخطئة؛ فإنها تبدو صالحةً أحيانًا لتفسير بعض الاستجابات البطيئة فى مواقف صاخبةٍ، والتحذير من أثر الاستكانة للاعتياد والتطبيع مع الأزمات مهما بدت صغيرةً. ولعلَّ حالَ النكبة الواقعة على قطاع غزَّة منذ عشرة أشهر، يحتملُ التفسير بأمثولةِ الضفدع، وتحديدًا فى المُعايشة الاضطراريّة الكئيبة للموت والخراب طوالَ الوقت، ثمَّ فى انتداب يحيى السنوار على رأس حركة حماس مُؤخّرًا.

أعلنت الحركةُ فى بيانها مساءَ الثلاثاء، اختيارَ قائدها الأبرز فى القطاع رئيسًا للمكتب السياسىِّ خلفًا للراحل إسماعيل هنيّة، بعدما قُتِل بصاروخٍ إسرائيلى فى أحضان طهران.. كانت الضربةُ قاسيةً لدرجةِ الصدمة، وربما تغييب العقل لصالح البحث عن أكثر الطُّرق سخونةً للردِّ واستعادة التوازُن. ويتعيَّن بالضرورة أن تبدأَ المُقاربةُ من إدانة الاغتيالات السياسية، وتأكيد أنَّ نتنياهو وحكومتَه المُتطرِّفة يسعون لإدامة الحرب، ويتهرَّبون من استحقاقات التهدئة والتوصُّل لصفقةٍ تُوقِف كُرةَ اللهب. تلك نقطةٌ مفروغٌ منها وليست مجالاً للجدل، بالضبط كما أننا لا نحتاج للاستطراد فى الشواهد على غشومةِ الاحتلال وإجرامه، وأنه يرقصُ بفجاجةٍ فوقَ الخطوط الحُمر للإنسانية والقانون، ويُعاونه نظامٌ دولىٌّ مُختلّ وغير عادلٍ؛ لكنه الواقعُ الذى لا نملك أدوات تغييره، وعلينا مُراوغته والإفلات من شِراكِه ما استطعنا لهذا سبيلاً.

شُطِبَ اسمُ «هنيّة» فجرَ الأربعاء قبل الماضى، ومنذ اليوم التالى بدأت مُداولاتُ الإحلال والبحث عن بديل. طُرِحَتْ باقةُ أسماءٍ من أقاليم الحركة الثلاثة: غزَّة والضفَّة والخارج. قِيلَ إنَّ رجلَ القطاع القوىَّ يرفضُ عودةَ خالد مشعل للمقعد الذى غادره قبل سبع سنوات، وإنَّ موقفَه يتأتَّى من صراعٍ داخلىٍّ بين جناحين حماسيِّين: القديم على مَيله جِهةَ الإخوان وحاضنتهم الإقليميّة المعروفة، والجديد بهَواه الإيرانىِّ وعلاقاته المُتشابكة مع محور المُمانعة.. والمُفارقةُ أنَّ يحيى السنوار لم يُطرَحْ مُطلقًا فى ورشة الفرز والانتقاء، ثمَّ تسرَّبَ اسمُ رئيس مجلس الشورى محمد إسماعيل درويش، قبل أنْ تنفيه الحركةُ سريعًا وتُعلن اختيار رجلِ الظلِّ بالإجماع. بدا المشهدُ بالإجمال غامضًا، وبواعثُ القرار عاطفيَّةً ثأريّة، أمَّا حساباتُ التعقُّل والمصلحة والأولويات فقد تأخَّرت كالعادة.

الخطوةُ مفتوحةٌ على كلِّ الاحتمالات، وتقبلُ التأويلَ من زوايا عديدة، بعضها مُتضادّة ومُتعارضة. ربما أرادت الحركةُ أن تُدينَ اغتيالَ «هنيَّة» بلهجةٍ خطابيّة زاعقة، أو تُؤكِّد ثباتَ موقفها على خيار المُقاومة دون إخضاعٍ للضغوط ومنطق التفاوض تحت النار. إنها تقول لنتنياهو إنَّ سياستَه فى التصفية الجسدية لن تُحقِّق له ما يُريد، وكلَّما أزاحَ مُتشدِّدًا يكرهُه سيصطدمُ بالأكثر تشدُّدًا وعداوة، وإذا كان يُريدُ زحزحةَ الفصيل بعيدًا من المجال الإيرانىِّ؛ فإنه سيرُدُّ بالاقتراب منه بدرجةٍ أكبر. ولو كانت الرغبةُ الصهيونية مُتأجِّجةً لجِهَة توسعة الميدان، وحَرْفِ الأنظار عن المسألة الفلسطينية تحت لافتة الصراع الإقليمى، فإنَّ نضالات الفصائل تعودُ للتركُّز فى بيئتها الأصليَّة، وتفضيل خنادق الأرض المُحتلَّة على فنادق العواصم الهادئة؛ لا سيِّما بعدما تأكَّد أنَّ أمانَ القادة فى غزَّة ربما يفوقُ أمانَهم فى الخارج.

بالقراءةِ العقليَّة، لا مُبرِّرَ وراءَ تصعيد السنوار إلَّا الخوف من مصير هنيَّة. بمعنى أنَّ الحركةَ استوثَقَت من هشاشة الإسناد الخارجىِّ، أكان من محور المُمانعة أم من حُلفاء الإخوان، ولا يُريدون التضحيةَ بقائدٍ جديدٍ على مذبح الجنون. إنَّ «مشعل» أو أىَّ بديلٍ من رجال المنافى سيصيرُ بمُجرَّد اختياره هدفًا للأذرُع الصهيونية الطويلة، بما يُلقيه ذلك من أعباءٍ على الحركة فى بُنيانها وتسلسُلِها القيادىِّ، ويُسبِّبه من إحراجٍ للرُّعاة والداعمين؛ لو صارت بُلدانُهم ملعبًا للقَنص والتحييد. فكأنَّ الحماسيِّين أرادوا أن يُبرزوا التحدِّى لإسرائيل أوَّلاً، ثمَّ أن يعصموا دمَ قيادتهم الجديدة، ويُقلِّصوا الضغطَ على الشركاء بعدما تبدَّى عجزُهم عن تأمين الرؤوس المطلوبة. ورغم أنها تبدو تفاصيل منطقيّة مُقنعة؛ لكنها تحملُ من الإشارات الإضافيّة ما يكفى للانزعاج وإثارة التساؤلات؛ لا سيِّما من ناحية الصالح العام، وأن يكونَ النضالُ كلُّه لفائدة القضية فى مجموعها، لا وفقَ مصالح وحسابات أحد أطرافها الحركيَّة.

كان انقلابُ 2007، وما أثاره من انقسامٍ وطنىٍّ، خطوةً على طريق تأميم القضية وسَحبِها لرصيد حماس، وربما يُبشِّر اختيار «السنوار» بجولةٍ ثانيةٍ، تُؤَمَّمُ فيها الحركةُ نفسُها لأحد أجنحتها. لقد كان «هنيَّة» وَسيطًا بين تيَّارين؛ وإن مالَ قليلاً جهةَ المحورِ الشيعىِّ، أمَّا خليفتُه فإنَّه واضحُ الانحيازات، وقد اصطحب معه مُعاونًا من الدائرة ذاتها، نائبه الجديد خليل الحيَّة. وهكذا لا يُمكن حَصرُ الخطوة فى التصعيد الدعائىِّ، ولا رُدود العاطفة على جنون المُمارسات فحَسب؛ بل لعلَّها تُعبِّر عن تغيُّرٍ عميقٍ فى الأفكار والتوجُّهات، ومُقارعةٍ لليمين الصهيونىِّ بأدواته الخَشِنة، دون التفاتٍ للتوازُنات وفوارق القوَّة، ولا اعتبارٍ لأهميّة البراجماتيَّة والمناورة فى لَعبِ الأوراق السياسية والعسكرية. ومن هُنا؛ فقد ينتكِسُ بالضرورة مسارُ المُصالحة الوطنية، وتتعطَّل مسيرةُ الانخراط فى مُنظَّمة التحرير، والبحث عن صيغةٍ فلسطينيّة جامعة لِمَا بعد الحرب؛ إذ المُضمَرُ من الحديث أنَّه لا رغبةَ فى البحث عن «اليوم التالى» خارج أجندة الطوفان.

عَمليًّا، لا يبدو التغيير كبيرًا؛ فالواقع أنَّ «السنوار» يُدير الحركةَ بكاملها منذ السابع من أكتوبر، ويفرضُ رُؤاه على الطبقة السياسيَّة فى الخارج؛ ذلك لأنه الأوثقُ صِلةً بمحور المُمانعة، ولأنه رجلُ الميدان القادرُ على التهدئة أو التصعيد. الأمرُ أقربُ لنَقلِ دائرة الضوء من الواجهة الظاهرية إلى القيادة الفعلية؛ لكنَّ الفارقَ كبيرٌ بين التحكُّم من الظِّلّ، وأن تُفصِحَ عن التركيبة القائمة، مع ما يترتَّب على ذلك من وَصْمٍ وحِصارٍ وتضييقٍ لهامش المُناورة. والسؤالُ لا يقعُ فى نطاق المسؤوليَّة عمَّا جرى طوال الأشهر العشرة الماضية؛ لأنَّ الفاعلَ الميدانىَّ واضحٌ ومَعروفٌ من غيرِ تصريح؛ لكنَّ المُقاربةَ الناضجةَ تتحسَّبُ لتوحيد الرؤوس، ودَمج السياسىِّ بالعسكرىِّ، والإقلاع الكامل عن البراجماتيَّة لصالحِ خيارٍ ساخنٍ يُلقى كلَّ أوراقه فى المحرقة، بما يخصمُ من إمكانات تعديل الشروط القاسية، والتصدِّى لأدوارٍ مُستقبليّة مُحتمَلة، على صعيد ترتيب المشهد السياسى فى القطاع، أو حتى العلاقة مع «محور الاعتدال» والفاعلين المأمولين فى خُطَط الإعمار.

أقامَ «السنوار» أكثرَ من ثُلثِ عُمرِه فى سجون الاحتلال، ويعرفُه جيِّدًا ويُتقِّنُ لُغتَه باقتدار؛ لكنه قد لا يُجيد السياسةَ بالقدر نفسه. وإذا كان اختيارُه اليومَ مُؤقَّتًا لملءِ الفجوة الزمنية حتى موعد الانتخابات، فإنَّ ظرفَ الحرب وصِيغةَ الإجماع وتَمَكُّنَ جناح الصقور، قد تتضافرُ كلُّها معًا لتجعَلَ العابرَ مُمتدًّا ودائمًا.. وهذا الاحتمالُ لا بُدَّ من أنَّه مَرَّ على أذهان الصفِّ الأوَّل فى القيادة، وعَدمُ الوقوف أمامه طويلاً ربما يكشفُ عن نزعةٍ يائسة، لم تعُدْ ترى فُرصةً للخروج من دائرة النار إلَّا بمزيدٍ من التعمُّق فيها. هكذا قد يبدو الخيارُ انتحاريًّا على معنىً من المعانى؛ لأنَّه يُقلِّم غصونَ الحركة مُستبقيًا الجذع بمُفرَده، ويُغذِّى السرديَّةَ الصهيونيّةَ عن أنه لا فارقَ بين المُفاوضين والمُقاتلين، ولا أملَ فى التعايُش أو التسوية على شَرط الدولتين، كما لن يقبلَ نتنياهو أو أىُّ بديلٍ عنه توقيعَ اتِّفاقٍ مع الفاعل الرئيسىِّ فى «طوفان الأقصى»؛ إذ سيكونُ ذلك إقرارًا بالفشل مرَّتين: صَفعة الهجوم، ومرارة الصفقة مع صاحبه بدلاً من توقيع شهادة وفاته.

سيكولوجيّةُ خالد مشعل لا تَنُمُّ عن شخصٍ زاهد؛ والأرجحُ أنَّه أُجبِرَ على موقفِ التراجُع لحساباتٍ شخصيَّة أو موضوعية. ربما لم تجِدْ الحركةُ بديلاً من الكوادر الصالحة إلَّا يحيى، أو أراد المُتنفِّذون فيها غسلَ أيديهم من كُلفة المُغامرة وارتداداتها، بتعليق الجرس فى رَقبة قَارِعه الأوَّل، على الأقل بمنطق «اللى شَبكنا يخلَّصنا». وفى كلِّ الأحوال فإنَّ الانتقال من هنيَّة إلى السنوار يُعبِّر عن أزمةٍ داخليّة عميقةٍ، تتَّصل بهيمنة تيَّار على آخر، أو بانعدام الخيارات والبدائل، والعجز عن التفكير فى الراهن والمُقبل بعقلٍ باردٍ لا تتسلَّط عليه حرائق الحرب، هذا فى أحسن الفروض، أمَّا فى أسوأها فقد يُفسَّرُ بإملاءِ القرار من فوق رؤوس الحماسيِّين أنفسِهم، وأنه يُتَّخذ مَنفذًا لتفريغ حالة الغضب والاحتراق الشعاراتىِّ التى يُعانيها محورُ المُمانعة وأطرافه السارحة فى المنطقة.

تلقَّى غَزِّيون كُثرٌ قرارَ «السنوار» بهَلَعٍ ظاهر، أو برَيبةٍ مُتحفِّظة؛ أمَّا أغلبُ الدائرة العربية على منصَّات التواصل الاجتماعى فقد أقامت الأفراح وعَقَدتْ راياتِ النصر؛ ولعلَّ هذا كان المطلوب تمامًا. إنَّ طهرانَ فى إشكاليَّةٍ صعبة بين رغبةِ الثأر وتهديدات الرَّدع، وليس أقلَّ من تقديم انتصارٍ مَعنوىٍّ باهتٍ لقواعدها، أو لجمهور القضية الفلسطينية المُحايدين مذهبيًّا، يُعوِّضُ عن الضعفِ الظاهرِ فى سُلوكها، ويصرفُ الناسَ عن انتظار الردِّ الوازن والمُداواة النفسية العسيرة. ولو صَحَّ هذا التصوُّر؛ فكأنَّ «حماس» تصدَّت لمهمَّة امتصاص الفائض الشعورىِّ الجارف، وتمرير النُّكوص المُحتَمَل من جانب المُمانعين، تحت ستار الساحر الذى يُطلّ على المسرح ليسرقَ الانتباهَ ويسحرَ الأبصار. ومهما جاء التعقيبُ على مقتل «هنيَّة» باهتًا لا يَهُمّ؛ فلقد ربحنا سيفًا بدلاً من الخنجر، واكتفينا عن السياسىِّ المغدور بالمُقاتل المِغوار.. لقد تحوَّل المشهدُ فجأةً من مأتم «أبو العبد» إلى حفلِ زفاف «أبو إبراهيم»؛ فكأنَّ إسرائيلَ مَشكورةٌ بإجرامها، وطهرانَ مُباركةٌ بانكشافها وهشاشتها؛ لأنهما فتحتا معًا الطريقَ لينُوبَ خيرُ خَلَفٍ عن خيرِ سَلَف.

ليس من الحصافةِ أنْ تضعَ البيضَ فى سَلَّةٍ واحدة. وفى حال «حماس» فالمقصودُ توحيد مستويات القرار لا مكانَ وُجودِها. اكتسبَ «السنوار» رَمزيَّةً نِضاليّةً بحُكم الواقع، وله مَوقعٌ مُتقدِّم داخل الحركة وعلى لائحة جمهورها، وهو مُخلِصٌ وأَمينٌ ولا نُشكِّك فى نواياه؛ لكنّه فى لُعبةِ الدعاية صار عِبئًا سياسيًّا وقانونيًّا على القطاع والفصائل والقضيّة كلِّها. ليس المطلوب تحييده طبعًا ولا التضحية بجهوده؛ إنما أنْ يُجاوره وجهٌ مُعتَدِل، قادرٌ على مُوازنة الصورة وتحييد خطابات الوَصْم والتشويه. لو كان المُراد تحصينَ القائد الجديد، أو تجنيب العواصم الحليفة مَغبّة الاختراق الصهيونى؛ فإنَّ اختيارَ أحد الحاضرين فى غزَّة يبدو مَنطقيًّا للغاية؛ وليس شرطًا أنْ يكون صاحب الطوفان ومُهندس الحرب الطويلة. إنَّ العدو مُنحطّ ومُتبجّح لآخر مدى، ويحقُّ للمنكوبين أن يسلكوا كلَّ المسارات الكفيلة برَدعِه أو إيلامه؛ لكنَّ تصويبَ الحركة على أقدامها يضرُّها ولو أغاظَ الاحتلال.. إنها قضيّةٌ وُجوديّة لا مُكايدة طفوليّة، وأثبتت العُقود السالفة أنها مُباراةٌ مفتوحة، والحَسْم فيها بالنقاط لا بالضربة القاضية، وهنا يتوجَّب تقديم العقل على العاطفة؛ لأنَّ ما يُربَحُ دَعائيًّا اليومَ قد يُقابله نزيفٌ عارمٌ غدًا.

لم يكُن «هنيّة» مُفرِّطًا؛ بل إنه لا يُحسَبُ على الحمائم أصلاً. كما أنَّ «السنوار» لم يكُن بعيدًا من أجواء التفاوض؛ رغم خطابه الزاعق. الهُدنة الأُولى فى نوفمبر الماضى مرَّت بمُوافقته، والثانية عندما اقتربت قبل أسابيع لم يعترض عليها. خبرةُ الرجل تقطعُ بأنّه واعٍ بما آلَ إليه القطاع والحركة، ويطلبُ الصفقةَ بقدر ما يتمنّاها الغزِّيون الأبرياء، أو يسعى إليها الوسطاءُ والضامنون. والفترةُ الماضية كان يلعبُ دورَ العصا، وقادةُ الخارج يحملون الجَزَرة؛ أمَّا الآنَ فقد تجمَّعت الخيوطُ كلُّها فى يديه على عُمق عشرات الأمتار، بانفصالٍ عن الواقع وعدم دِرايةٍ بتطوُّرات الإقليم والعالم، وقُدرةٍ شِبه معدومة على الاتِّصال الديناميكىِّ السريع. قد يكونُ تنصيبُه نصرًا معنويًّا تحت سقف الشعور بالانكسار والهزيمة؛ لكنه للأسف يصعُب تثميره لصالح الخروج من المِحنَة، أو استنقاذ الحركة من هاويتها السحيقة؛ بل على العكس سيُشجِّع مخابيل تل أبيب على مواصلة الحرب حتى موعد الإحلال فى البيت الأبيض، وحال وُصول ترامب فقد تختبرُ القضيّةُ مستوىً آخرَ أشدَّ غطرسةً وأردأ فى الخيارات والبدائل.

لنكُن واقعيِّين. قال الصهاينة إنَّ «السنوار رجلٌ ميِّت»؛ ورغم إخفاقهم فى الوصول إليه حتى الآن؛ فإنهم سيظلّون فى سباقٍ عاصفٍ مع مَوعد أَجَلِه الطبيعى. السوابقُ من حادثة ميونيخ، وما قبلها وبعدها، تقولُ إنهم لن يتوقَّفوا عن المُحاولة، وحال نجاحهم قريبًا أو بعيدًا ستدخلُ «حماس» فى دوَّامةٍ هادرة؛ بعدما يتمكَّن الصقورُ وتُرخِى الشيعيَّة المُسلَّحة عباءتها على التنظيم. والأمرُ بين مسارين: أن يكون ذلك إيذانًا بتصفية الحركة تمهيدًا لتفكيكها أو إعادة إنتاج نفسِها فى كيانٍ بديل، أو تَعبُرُ بها القيادةُ الجديدة على أجندةٍ مُغايرة لِمَا تأسَّست عليه، وللثابت الوطنىِّ المُنقَّح فى ورقة 2017، وكلِّ ما جاء بعدها من اقتراحاتِ المُصالحة فى ضوء ميثاقيَّة مُنظَّمة التحرير. فالسنوار اختيارٌ يُناسب المرحلةَ ويستجيبُ لتحدِّياتها؛ لكنه بعيدٌ عن الخيال المُستقبلىِّ الذى يتعيَّن إنجازُه اليومَ لفلسطين وفصائلها؛ فكأنهم اختاروا تجميدَ اللحظة المأزومة بدلاً عن البحث عن مخارج عقلانية من قيودِها الضاغطة.

الفارقُ بين النضال والانتحار أن تتقدَّم القضيّةُ شِبرًا للأمام، أو على الأقل ألَّا تتقهقرَ إلى الوراء.. والواقعُ أنَّ «الطوفان» أضرَّ بحاضر فلسطين أكثر ممَّا أضاف لمستقبلها القريب، واختيارُ «السنوار» انحيازٌ كامل لأجندة 7 أكتوبر، وتحييدٌ لبقيَّة الرُّؤى والأفكار. الحَسَنةُ الوحيدة أنه ربما يكشفُ عن تضاؤل الثقة فى إسناد المُمانعة، ولو ظلَّت الروابط وثيقةً فى ظاهرها؛ فكان البديلُ إعادةَ القرار للقطاع بدلاً من تركه عاريًا لدى الحُلفاء المُستأسدين بالخُطَب والشعارات فحسب. وبعيدًا من البواعث والانعكاسات؛ فالقائدُ الفِعلىُّ صار الواجهةَ الرسميّة، وواجبُه أن يضعَ السياسةَ بجانب السلاح، وأن يبحثَ عمَّا يصبُّ فى صالح الغزِّيين جميعًا، ولو بدا على خلاف مُستهدفات الحركة. أمَّا الأولويّةُ الأهمُّ فأنْ تكونَ المرحلةُ مُؤقَّتةً، ويُعاد عنها لأصل الأمور عندما تنضجُ الظروفُ، بمعنى أن يكون الدبلوماسيِّون مُتحرِّرين من وصاية المُقاتلين، وأن تُدار العلاقة بينهما على قاعدةٍ من التوازُن الخلَّاق، وبترتيبٍ عاقلٍ للأولويَّات، وبُعْدٍ محسوبٍ عن الخيارات الصفريَّة ومُنافسة العدوِّ فى تفضيلاته الجنونية. أكثرُ ما يُزعِجُ الآنَ أنْ يكونَ الانقسامُ بين الفصائل قد تمدَّد إلى داخل الكُتلة الأبرز منها، وأن تتعثَّر مسيرةُ البحث عن المُصالحة بين شجاراتٍ داخليَّة وعُموميَّة. وحقيقىٌّ أنَّ الأزمةَ كلَّها فى الاحتلال، والمسألةَ محكومةٌ بنزوات الصهاينة المُتطرِّفين؛ لكنَّ التحرُّرَ عمليّةٌ مُركَّبة ومُتداخلة فى تفاصيلها، غايتُها مع الغريم الظالم، وبعض وسائلها مع النفس، وأوَّلها التمرُّد على اليأس والعاطفة السائلة، وأهمُّها عدم الاستكانة لدور «الضفدع المغلى»؛ بينما يتنافسُ المُحتلُّ والمُمانع فى إحماء النار من الداخل، وعلى أطراف فلسطين.

نقلاً عن اليوم السابع

حول الموقع

سام برس