بقلم/ د. صلاح حليمة
لم تدخر مصر جهدا أو تحركا على المستوى الثنائى أو على المستوى المتعدد من أجل الإسهام فى تجاوز الأزمة السودانية وتسويتها، إلا وبذلته. تبلورت تلك الجهود ـ والتى جرت على مستوى آلية القمة من جانب الرئيس السيسى مع نظرائه من قادة الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، وعلى المستوى الوزارى والأجهزة المعنية مع نظرائهم، بجانب شمولية التحرك مع قيادات مكونات المجتمع السودانى بما فى ذلك مكونه العسكري. لقد تبلورت مجمل هذه التحركات فى مؤتمر القاهرة الذى عقد فى يوليو 2024، حيث تناول المؤتمر أبعاد الأزمة السودانية، مستهدفا السعى نحو التوصل إلى توافق بين الفرقاء السودانيين ليتم الإسهام فى تجاوز الأزمة التى تتمحور حول انقسامات وصراعات داخلية, بين مجمل مكونات المجتمع السودانى, من قوى وأحزاب وأطياف ومجموعات سياسية.

لقد تعددت المبادرات والمنابر التى تناولت الأزمة وتم طرحها من جانب دول ومنظمات إقليمية ودولية. وكانت أبرز المنابر التى حققت تقدما ولو محدودا ـ دون المنشود ـ وبدرجات متفاوتة، منبر جدة (يضم السعودية والولايات المتحدة ) 2023 ، ومنبر القاهرة يوليو 2024 .

الأول، بما توصل إليه بموجب مذكرة تفاهم موقعة فى مايو 2023 بين ممثلى الدعم السريع والقوات المسلحة لوقف إطلاق النار وإخلاء الأعيان والمنازل من قوات الدعم السريع...وتجميع القوات خارج المدن.... وتتمسك القوات المسلحة عبر مجلس السيادة والحكومة السودانية التى تدير شئون الدولة والمعترف بها دوليا بحكم الأمر الواقع بضرورة تطبيق ما تقرر فى منبر جدة بموجب هذه المذكرة.

والثانى، مؤتمر القاهرة يوليو 2024، وهو المؤتمر الذى استحدث مقاربة مختلفة جذريا عن المقاربات التقليدية التى انتهجت فى مبادرات أخرى. جاء مؤتمر القاهرة بمبادرة مجتمعية تتأسس على حوار سودانى / سودانى بشمولية مكونات المجتمع السودانى، ليضم فرقاء القوى السياسية والأحزاب والمجتمع المدنى والحركات الثورية خاصة الفاعلة منها، وبشمولية أبعاد الأزمة السودانية مركزة على مسار وقف إطلاق النار ومسار معالجة الأوضاع الإنسانية والمسار السياسى. وبشمولية مشاركة الدول والمنظمات الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السودانى كمراقبين وضامنين لمخرجات المؤتمر. حقق مؤتمر القاهرة نجاحات غير مسبوقة بالتوافق بين المجتمعين سواء على مسار وقف إطلاق النار بتحديد آليات وترتيبات ومتطلبات تنفيذه على أرض الواقع ربطا بما انتهى إليه منبر جدة، خاصة على مسار معالجة الأوضاع الإنسانية على نحو كامل وشامل ومن جميع جوانبها وسبل تحقيق ذلك، وأنشأ لجنة تتولى اتخاذ ما يلزم فى هذا الصدد بما فى ذلك أوضاع المواطنين السودانيين بدول الجوار. أما بالنسبة للمسار السياسى فقد تم تشكيل لجنة لمتابعة الحوار بين الفرقاء السودانيين وصولا لتوافق حول تشكيل حكومة كفاءات انتقالية تتولى إدارة شئون الدولة خلال تلك الفترة الانتقالية، وتمهد لانتخابات حرة ونزيهة، واتخاذ ترتيبات لوضع دستور دائم.

واقع الأمر، تتأكد إلزامية مخرجات المؤتمر لطرفى الصراع المسلح، ولأى أطراف عسكرية أو شبه عسكرية بتوافق المجتمعين على هذه المخرجات باعتبارهم ممثلى الشعب الذى يتجسد فى مكونات المجتمع السودانى، وبالتالى عندئذ على القوات المسلحة أن تسلم السلطة للحكومة الانتقالية اتساقا مع وعد سابق من رئيس مجلس السيادة بتسليم السلطة لحكومة يتم التوافق عليها من جانب القوى والأحزاب السياسية، ويتم تطوير المؤسسة العسكرية وتحديثها. وعلى قوات الدعم السريع وغيرها من مكونات عسكرية أو شبه عسكرية أن تقبل بالدمج فى القوات المسلحة أو الشرطة أو فى المجتمع اتساقا مع ما سبق أن تم التوافق عليه فيما انتهت إليه قوى الحرية والتغيير فى المجلس المركزى من قبل. واقع الأمر أن مجمل ما سبق هى أمور متوافق عليها من جانب مكونات المجتمع السودانى بل ويمكن رصد التوافق عليها شعبيا.

من المنتظر أن تتواصل جهود مصر المقدرة والتى تنعقد عليها الآمال لإحداث انفراجة كبيرة فى الأزمة السودانية بأن تستأنف أعمال المؤتمر لتفعيل مسار العملية السياسية فى تواكب مع بدء العمل على مسار رابع يتعلق بالتمهيد لإعادة البناء والإعمار. ويبدو أن مصر تريثت حين طرحت الإدارة الأمريكية عبر مبعوثها إلى السودان مبادرة تتناول كغيرها من المبادرات السابقة مسارى وقف إطلاق النار ومعالجة الأوضاع الإنسانية. واقع الأمر أن جهود المبعوث الأمريكى تعثرت بصدد المسار الأول للاعتبارات التى تم الإشارة إليها من قبل، ولكنها حققت انفراجة جزئية بصدد المسار الثانى بقبول الحكومة السودانية التعاون فى هذه الخطوة لاعتبارات إنسانية دون مشاركة فى منبر جنيف.

لقد بدا للبعض أن التحرك الأمريكى باستحداث منبر جديد, منبر جنيف, جاء على خلفية رغبة أمريكية بإحداث انفراجة فى الأزمة السودانية تسهم فى تعزيز وضعية الإدارة الأمريكية الحالية فى الانتخابات الأمريكية القادمة، وبغض النظر عن ذلك، يمكن رصد أن التحرك الأمريكى حرص على تنسيق وثيق مع مصر فى إطار منبر جنيف على خلفية مخرجات منبر القاهرة الإيجابية وربطا بمخرجات منبر جدة. لقد شهدت القاهرة لقاءات على مستويات رفيعة من جانب وزير الخارجية الأمريكى والمبعوث الأمريكى إلى السودان، مع القيادة السياسية المصرية .كما شهدت مؤخرا تحركات لقيادات مصرية رفيعة المستوى تجاه قيادة مجلس السيادة السودانى فى محاولة لتفعيل المسارين الأمنى /العسكرى والإنسانى، وتواصل الجهود بصدد المسار السياسى ومسار إعادة البناء والاعمار فى اتساق مع مخرجات المنابر الثلاثة والتى تعد القاهرة وتحركاتها وما تطرحه من رؤى وأفكار المنبر المعول عليه ـ فى اتساق مع منبرى جدة وجنيف ـ لتجاوز الأزمة السودانية وتسويتها.

حول الموقع

سام برس