بقلم/ د. مصطفى الفقى
عندما وصلتنا أنباء الانفجارات الغادرة لأجهزة الاستدعاء الحديثة (البيجر)، قفزت إلى ذهنى مباشرةً تلك الندوة التثقيفية التى حضرتها بدعوة كريمة منذ عدة سنوات من هيئة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية فى ذكرى حرب أكتوبر، بحضور الرئيس السيسى وأركان الدولة المصرية وحشدٍ من المسئولين والمثقفين وضباط الجيش المصرى الباسل وأسر الشهداء الأبرار، وجرى فى تلك المناسبة تكريم أحد عواقل سيناء من شيوخها الذين جاهدوا فى سبيل وطنهم مصر بعد نكسة 1967، وانخرطوا فى العمل العسكرى والفدائى منذ اللحظات الأولى لوقوع العدوان، ولم يتوقفوا حتى تم العبور العظيم عام 1973، وفوجئت بتكريم ذلك الشيخ السيناوى الكبير وهو يصافح رئيس الجمهورية ويحيط به التصفيق الحاد، وتساءلت عن العمل البطولى العظيم الذى استحق به ذلك التكريم، وقيل لنا إنه أحد الشيوخ الفدائيين الذين ناضلوا وراء خطوط العدو بوطنية وشجاعة نادرين، ثم كانت النقطة المهمة هى أنه هو الذى اقترح التراسل بين المواقع المختلفة للجيش المصرى من خلال اللغة النوبية التى لا يعرفها الإسرائيليون ولا يتوقعون التراسل بها، فقد اقترح ذلك المناضل استخدام كلمات تلك اللغة القديمة والمعروفة فقط فى إطار أهلها المصريين من أبناء النوبة بإرسال الإشارات بالتعليمات والأوامر من خلال جدول بكلمات اللغة النوبية، يستحيل أن يكتشفها أو يتوقع استخدامها أحد، بعد أن كان العدو حينذاك ينجح فى فك الشفرات التقنية الحديثة من خلال خبرائه المعروفين فى ذلك المجال، فكانت حيلة اللجوء إلى التراسل الشفرى باللغة النوبية هى اقتراح عبقرى استفاد منه الجيش المصرى فى مرحلة معينة من قتاله الباسل أمام جيش الاحتلال الإسرائيلى، ولقد جرى اكتشاف وسيلة التراسل التى نتحدث عنها من خلال حقيقة معروفة وهى أن أبسط وسائل التأمين هى أحيانًا أكثرها دقة وإحكامًا، فكيف يخطر على بال الضابط الإسرائيلى أن الكلمات المبهمة التى يستمع إليها أو يقرأها من الرسائل المتبادلة على الجانب المصرى تستخدم مفردات نوبية لا علم له بها؟! وهل ننسى أن إغلاق الأبواب بالوسائل التقليدية يكون أحيانًا أقوى من إغلاقها بالوسائل الإلكترونية التى يمكن كسر شفرتها ولو بعد حين! فأبسط الوسائل أحيانًا تكون هى الأكثر تأمينًا وأشد إحكامًا، تذكرت ذلك كله وأنا أقرأ وأتابع ما جرى لمقاتلى حزب الله فى لبنان من جراء استخدامهم أجهزة الاتصال الحديثة نسبيًا، والتى يتوهم الجميع أنها كاملة السرية تامة الإحكام، ونسى الجميع أن إسرائيل لديها خبرات من ضباطها السابقين فى الحربين العالميتين الأولى والثانية ولديها تراكم تاريخى لأساليب التآمر والالتفاف ونشر الشائعات وبث الأكاذيب لترويع الطرف الآخر وشل قدراته على نحوٍ لا يتوقعه أحد، ولعل الجريمة الأخيرة التى أودت بحياة العشرات من المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين هى دليل دامغ على تلك الأساليب الملتوية التى برع فيها اليهود عبر تاريخهم الموزع جغرافيًا على أنحاء الأرض. والعرب والفلسطينيون مازالوا يتوهمون أن الحرب مع إسرائيل هى تراشق بالسلاح والاندفاع غير المحسوب فى بعض العمليات الفدائية، بينما القول عندى هو أن الحرب أصبحت تستخدم أساليب تكنولوجية متقدمة تحتاج إلى تفوق حضارى وتميز علمى ولا تقف عند حدود الحرب التقليدية كما عرفناها فى القرون الماضية، إذ إن الاستخبارات العسكرية المعتمدة على قراءة الواقع وفهم عقلية الطرف الآخر والتنبؤ بأساليب تعامله المنتظرة كرد فعل لاستفزازاته إنما تقوم كلها على التفوق التكنولوجى والأساليب المبتكرة والتصرفات الخبيثة التى لا يتوقعها الطرف الآخر ولا يتخيل حدوثها، فالحرب الحديثة سباقٌ حضارى وحوارٌ دام بالتقنيات التى لم تكن متاحة من قبل وبأساليب تتيح اغتيال من تريد على بعد مئات الأميال، إنها فتنة عصرنا ومأساة زماننا وليس أمامنا من سبيل إلا بالتفوق فى البحث العلمى، وفهم تطورات التكنولوجيا الحديثة التى إذا اقترنت بالنيات السيئة تصبح فى خدمة المزيد من الخراب والدمار بدلاًمن أن تكون أدوات للتقدم والرفاهية، إننى أسوق هذه الكلمات وأنا أعى جيدًا أن إسرائيل تحارب على جبهاتٍ مختلفة، ولا أعنى بذلك الجبهات الجغرافية ولكننى أقصد تحديدًا أن لديها فى حروبها مسارات متوازية ليس بينها معلومات متبادلة ولكن يجمع بينها تنسيق زمنى فهى لا تخضع بالضرورة للتفكير التقليدى والحرب الكلاسيكية كما عرفناها منذ سقوط السيوف وظهور البارود، حتى أصبحنا فى العصر الإلكترونى بتعقيداته المختلفة والحقبة النووية بمخاطرها المتزايدة التى لا تعرف حدودًا، لذلك فإننى أقول إن الصراع طويل طويل ولكن ذلك هو قدر أمتنا العربية، وهو أيضًا مستقبل شعوبنا والطريق الصعب أمام أجيالنا التى لايزال بعضها فى ضمير الغيب!
نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس