بقلم/ خالد الغنامي
البرغماتية الفلسفية هي المدرسة الوحيدة التي انطلقت من أميركا، وأخذت ملامح واضحة مع فلاسفتها الثلاثة الكبار، تشارلز بيرس ووليام جيمس وجون ديوي في مطلع القرن العشرين. وتبعهم كثيرون من الأميركيين من وزن ريتشارد رورتي (توفي سنة 2007) وويلارد كواين (توفي سنة 2000). فكرتها الرئيسة أن الحقيقي ليس تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان كما كان يقول الفلاسفة القدماء عبر العصور، ولا الاتساق الذي يعني عدم التناقض في العلوم الصورية (الرياضيات والمنطق)، بل الحقيقي هو ما ينفع الناس في حياتهم العملية. لم ينشغلوا بفكرة "الحق في ذاته". فالفكرة الحقيقية هي التي تحققها التجربة بمفهومها الواسع، وكل ما يتحقق بالفعل فهو حق، ولا يقاس صدق القضية إلا بمنفعتها لأكبر عدد من الناس، والعقل لا يبلغ غايته إلا إذا قاد الإنسان إلى ما يفيد.

اتفق بيرس وجيمس وديوي على توجيه العقل إلى العمل دون التفكير أو إعمال النظر أو التفتيش بين الأقوال أيها الحقيقي وأيها المزيف. فصارت المعرفة عندهم أداة للعمل المفيد، وانتزعوا التفكير من مكانته وأبعدوه عن النظر في المبادئ الأولى، ليشبهوا بذلك حكماء الصين الأوائل الذين لم يسألوا: من أين جاء العالم؟ واكتفوا بالسؤال: كيف يعمل العالم؟ هذا ما جعل البرغماتية فلسفة جديدة تتسم بالأصالة، سواء اتفقت معها أم اختلفت.

خطر ببالي اليوم سؤال: لماذا نشأت هذه الفلسفة ولماذا في هذه الحقبة تحديدا؟ في تصوري أن البرغماتية هي خلاصة ونتيجة ونهاية معارك عصر التنوير. لقد عجز الدوغمائيون عن صد حجج الشكوكيين، فنحن لا نملك معيارا فاصلا يميّز الحقيقة. وكل ما يسمونه برهانا اتضح أنه ليس سوى سجال وحِجاج. ليس إلا ذاك. يغلب على الظن أن كل الفلاسفة كانوا في صراع مع الشكوكيين، كل تاريخ الفلسفة هو مجرد محاولة للإجابة على هؤلاء القوم الذين بثوا في الإنسانية الوساوس، وحرروا العالم من الدوغما حتى وصل بعضهم إلى حالة الانتحار المعرفي فأنكروا قيام أية معرفة على الإطلاق مهما صغرت.

لدينا العقل والحواسّ والحدس لنحكم بها، والعقول تختلف وتتعارض وتتناقض، والحواس ترينا السراب ماء والعصا منكسرة إذا وضعنا بعضها في حوض السباحة، والحدس شيء ذاتي بالمرة ولا يمكن تعميم تجاربه على الآخرين. إذن لم يبق إلا الذاتي بعد أن استحال الموضوعي. هذا أدى إلى حالة من اليأس عند هؤلاء الفلاسفة، وثمة جملة لوليام جيمس تشي بهذا الأمر حين قرر أن الفلسفة هي مجرد صراع بين كبار العقول عبر القرون، وأنها مجرد صراع أمزجة تختلف باختلاف عقول البشر وتقلب ظروفهم النفسية، ليس بعدد الفلاسفة فقط، بل إن مزاج الفيلسوف الواحد يتقلب ويتغير مع تغير الميول العاطفية للإنسان والظروف الاجتماعية والسياسية والنظام الذي يحكم حياته.

من هنا حدث الانعطاف. إذا كنت لا تميز الماء من السراب، ولا تميز العصا المنكسرة في الماء، فانشغل بما ينفعك. بطبيعة الحال، ستجد هجاء كثيرا ونقدا للبرغماتية وسخرية من تعريفها للحقيقة، وأنها غير منشغلة بالحق. دع هؤلاء في عالم تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان، فالانشغال بهم هو مما يضيّع الوقت في غير فائدة ولا متعة.

نقلاً عن المجلة

حول الموقع

سام برس