بقلم/ إياد الدليمي
تتدحرج كرة اللهب في الشرق الأوسط بسرعة كبيرة، لم يعد الأمر مقتصراً على غزّة، والقضاء على حركة حماس، وتحرير "الأسرى" من قبضة المقاومة، ولا حتّى دفع "حماس" إلى خارج القطاع، كما لم تعد تفاصيل قرار مجلس الأمن 1701 ومواده، التي تتعلّق بوضع الحدود بين لبنان ودولة الكيان مقبولة بالنسبة لحكومة اليمين المتطرّف بقيادة بنيامين نتنياهو، فقد صار الحديث اليوم عن شروط إسرائيلية تعني الموافقة عليها، من بين ما تعنيه، استسلام حزب الله، واستباحة سماء لبنان من طيران الاحتلال، وإعادة تشكيل العملية السياسية في هذا البلد الصغير بحجمه، الكبير بتأثيره في المنطقة، لما يضمّه من تنوّع إثني وعرقي وطائفي يجعله بمثابة برميل بارودٍ يمكن أن يشعل المنطقة، إن اشتعل (لا قدّر الله!).

يقف العراق على تلّة من بارود هو الآخر، فلا جراح الماضي القريب برأت، ولا يوميات الأحزاب الحاكمة المتسلّطة وحكمها القائم على إرث من الثأر هدأت. وما بين هذا وذاك، تتدحرج كرة اللهب لتدخل حصن هذا البلد، الذي بات بلا حصن، من دون استئذان، وهو الذي كان في لحظة موطن أكبر تغيير جيوسياسي ستشهده المنطقة لاحقاً، بدأ منذ اللحظة التي قرّر فيها نظامه أن يغامر ويغزو بلداً عربيّاً جاراً عام 1990، لينفرط عقد منطقة ما كانت بحاجة إلى مثل تلك اللحظة الفارقة، القاتلة.

فشلت الأحزاب العراقية الحاكمة، عقب الغزو الأميركي عام 2003، في أن تنتج عملية سياسية قادرة على تجاوز أخطاء الماضي، بل كانت؛ وهي التي جاءت على ظهر دبّابة أميركية، أحد أكبر الأسباب في دفع البلاد إلى حرب أهلية ما زالت ندوب جروحها بادية على كثير من تفاصيله، وساهمت تلك الأحزاب في أن تكون مسماراً آخرَ يُدَّق في جسد وطن عانى من تسلّط الأنظمة، فدخل في نفق تسلّط الأحزاب وطائفيتها وعمالتها للخارج، حتى لكأنّها جاءت من أجل تدمير ما تبقّى من البلد.

يعترف محمود المشهداني، الذي اختير الخميس الماضي رئيساً للبرلمان العراقي، بعد عام من شغور المنصب، بأنهم "مقاولو تفليش (تهديم) وليس بناء". اعتراف من شخصية شاركت منذ اللحظة الأولى في العملية السياسية التي فصّلتها أميركا عقب الغزو، لتكون مناسبة على مقاسات أحزاب وشخصيات قضت عمرها خارج العراق، متربّعة في أحضان إيران، أو نظام الأسد الأب في دمشق. أكثر من ذلك، كانت هذه الأحزاب والشخصيات أداة بيد أنظمة المنطقة، وفي مقدّمتها إيران، وأميركا طبعاً، قبل أن تدخل أنظمة إقليمية ودولية أخرى لتصنع لنفسها أذرعاً داخل العملية السياسية في العراق، فكان أن تحوّل العراق واحداً من أكثر بلدان المنطقة فشلاً، ويكفي أن تقرأ ما يُكتَب سنوياً من المنظّمات الدولية لتتأكّد، فالعراق حافظ على مركز صدارته منذ سنوات، أكثرَ الدول فساداً، وفقاً لبيانات منظّمة الشفافية الدولية.

لم تنجح القوى السياسية التي جاءت على ظهر دبّابة المحتل في أن توطّن نفسها في العراق، ولا أن تعالج مشكلات الماضي، التي كانت تدّعي أنّها ضحية لها وللنظام، بل شرعت في عملية تدمير ممنهج للبلد، وأدخلت البلاد في أتون واحدة من أقسى مراحله، المتمثّلة بالحرب الأهلية التي انقادت لها البلاد مُكرَهة على يد تلك الأحزاب من 2006-2009، فظلّت هذه الأحزاب غريبة عن العراق، وعن أهله، حتى إن مضى على وجودها اليوم أكثر من 20 عاماً.

تلقي تغييرات المنطقة ظلالاً ثقيلة على العراق ومستقبله، فالعراق، على ما يبدو، سيكون على لائحة أهداف إسرائيل ومن خلفها أميركا، تخلّصاً من المليشيات المسلّحة، التي تعتبر نفسها جزءاً من محور المقاومة الذي تقوده إيران، التي ترى دوائر استخباراتية أنّها ستردّ على الضربة الإسرائيلية بضربة مماثلة، لكنها ستنطلق من العراق. ما يعني أن يكون العراق أيضاً، إن حصل ذلك، مسرحاً للردّ الإسرائيلي، وهو ما قد يجرّ البلاد إلى فوضى جديدة، يبدو أن بعضهم بدأ يتحسّب لها ويستعدّ. فوضى قد تصل إلى حرب أهلية في حال ضعفت أذرع إيران واضطرت الحكومة العراقية (مرغمة أو راغبة) للتعامل مع تلك الفصائل على أنّها فصائلٌ خارجة عن القانون، لتبدأ مرحلة أخرى من مراحل المواجهة المسلّحة في العراق، ربّما لن تبقى فيها الحكومة والمليشيات وحدهم في ساحة الصراع، بل قد تدخل أطرافٌ أخرى تنتظر هذه اللحظة.

يذكر الأمين العام الأسبق للحزب الإسلامي العراقي، محسن عبد الحميد، في مذكّراته التي أصدرها أخيراً بعنوان "الكلمة الأخيرة"، أنه بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كان هناك مشروعان شيعي وكردي، ولم يكن هناك مشروع سنّي يمكن أن يقابلهما. كان هذا الكلام قبل أكثر من 20 عاماً، هناك الآن أحزاب سياسية سنّية لديها أذرع اقتصادية وإعلامية وعلاقات دولية وإقليمية. صحيح أنها اليوم تعتبر مكمّلة للمشهد السياسي لا أكثر، إلّا أن لهذه الأحزاب طموحاتها أيضاً، وهي الأخرى تنتظر لحظة فارقة لتكشّر عن أنيابها، خاصّة أن بوادر المطالبة بإقليم للسُّنّة صارت تقال علناً، وتحوّلت إلى مطالب، ليست شعبية فحسب، وإنّما حزبية أيضاً.

من هنا، يمكن القول إن وصفة الحرب الأهلية باتت جاهزة، فبعد 20 عاماً من القمع والقتل والترهيب والإقصاء والاعتقالات والتسلّط والتفرّد بالحكم وغيرها، أضحى المسرح جاهزاً، واللاعبون على أتم الجهوزية للشروع بالمرحلة الأخرى، التي قد تكون بوابتها الحرب الأهلية، وإعادة تشكيل الواقع العراقي، ليس بناءً على مقتضيات المصلحة الوطنية، وإنّما لمقتضيات المصلحة الأميركية الإسرائيلية حصراً، فهل سيكون العراق قادراً على تجنّب خيار حرب أهلية جديدة؟
نقلاً عن العربي الجديد

حول الموقع

سام برس