بقلم / عبدالكريم المدي
مقال متميز للكاتب والمحلل السياسي عبدالكريم المدي ، يلخص فيه رحلة العمر مختزلاً العديد من الذكريات والاحداث وما استكشفه من نقاط التفتيش الامني وحالات اليقظة والطوارىء اثناء سفره الى مدينة محمية العتمة ذات الجال الاخذ للابصار والسالب للعقول والجمال الفتان وروعة المكان ، بعد ان ارادت بعض قوى الشر تحويل الخضرة والوجه الحسن الى نار ودماء وسواد حالك، ولاهمية ماكتبه واطلاع القارىء على تلك الاحداث ينشره موقع "  سام برس" نشره  لتعميم الفائدة والولوج تلك الدرة واسرارها.

حملني الليل ونسيمات أجواء عتمة لطيفة الوقع ،إلى جرح يمتدُّ من وطني إلى أعماق قلبي، ففي مفترق طريقين (منطقة سما عتمه) لم أجد نفسي إلا وأنا في  مكان يعجُّ بتفاصيل الوحشة والتعب ،وقد لا يفهم ويستوعب ما أعنيه هنا الكثير من الناس البعيدين عن الوجع.

 هبطت بي عجلات السيارة وكأنني في حالة هبوط حرّ من السماء نحو ذلك الجرح الذي عشته قبل أيام عن بُعد.
إنها حرب عتمة التي أغتسلتُ معها بدموع أحبتي ،ودماء أبناء وطني المسفوكة في أكثر من مكان والتي غذّى إراقتها عدوان بربري،همجي ..وتحتاج هذه العبارة إلى مناقشة أخرى.

المهم ما أودُّ الإشارة إليه هنا بداية هو أنني قابلتُ نماذجا جيدة من أفراد النقاط الأمنية التي تنتشر في تلك الجغرافية، وتحديدا ما بين الشرم العالي والسافل وسوق الثلوث والمناطق الحدودية والقريبة من رحاب والقفر..

وللانصاف فأن معظم أفرادها يستحقون الثناء لتعاملهم الراقي مع شخص مثلي مرّ هناك وحسّ بأن ما أجتازه أشبه بالحلم وما هو مقبل عليه أشبه بالخيال الساري من المواجع التي غالبا ما تُحبط إحساسه بالحياة ودهشة المكان.

الاكتشاف الأول .. وتوقُّف زرّ مصعد الهبوط والارتفاع:

ما بين الساعة التاسعة والعاشرة من مساء الأربعاء17مارس2017 تقريبا أخطأتُ الطريق في سما عتمه وأنا متّجه صوب الديار،أخذت الرياح أشرعتي نحو مطارح لداحس جديدة وغبراء أخرى ما أنفكّت تتناسل منّا وتتسرب من بين أصابعنا،ولم يكن معي حينها - بعد خالقي -  سوى ( مروان).

أخذنا في السير على حين غرّة والصمت يطحن عظام الأصوات فينا ومن حولنا، نُطبّق لا شعوريا فلسفة " يان مارتل" معتقدين صوابه حينما رأى بأن المرء عندما يختار الاحتراس لتحقيق هدفه كفلسفة في الحياة، يجب عليه اختيار السكون كوسيلة من وسائل النقل كي يصل لغايته ،ولم نكتشف بأن تطبيقنا لهذه الرؤية خاطىء وأننا نمضي نحو هاوية سحيقة من الألم والتوهان والانسحاق تحت مطرقة ضياع دربنا، وسندان الشكوك بخلفية وسرّوجودنا هناك.

غرقنا شيئا فشيئا ولم نعلم بأننا كُنا نجازفُ بدموع عيون وقلوب من ينتظرنا هناك حيثُ ذواتنا ومداركنا أنبلجت ذات يوم ،ورغم ملاحظتي بوجود حالة إستنفار عالية كانت تظهر على المسلحين في عشرات النقاط الأمنية إلا أن مجاديفنا أستمرت في التجديف بدون عنوان ولا بوصلة أو نجوم في سماء ليلنا تمنحنا الإلهام .

لا أنكر أنني وجدتُ نفسي ،وأنا أقود السيارة بسرعة كبيرة قبل إرتطامي المعنوي والوجداني بنقطة أمنية جديدة،أمُثّلُ استثناء ،شكلا ومضمونا في منطقة تعيش أصلا ،أعلى درجات حالات الطوارىء والاحتباس النفسي والشعوري ومع هذا قابلني معظم أفراد وقيادات تلك النقاط باحترام ألزمني بأن أعبّر لهم عن مودة فائضة من جانب، ومن جانب آخر ألاّ أترك أياً من ملامح لذكريات كتلك تذهب هدرا بعيداً عن هذا التدوين الذي أشارككم إياه.

ولا أنكر- أيضا - بأنني شعرت بألم المكان الذي حاولت الركض فيه سريعا هربا منه إليه ،حاولتُ جاهدا إكتشاف خط سير آخر،ألم آخر، وجع آخر تؤل الإمور فيه للأفضل ويكون متواريا بين ظل تلك الوهاد والقرى وضوء القمرالشاحب، لكنني لم أنل أكثر من توهاني وعذاباتي في أرض أحبها وأناس يسكنونني ..

كنتُ أحاول في سوق الثلوث الانطلاق نحو الأعلى بقوة الصاروخ ، لكن تلك النقاط  بقدرما كانت تهديني وتمنحني قدرا من الأمان وبوصلة الاتجاهات والمخارج الصحيحة كانت - أيضا - تهدّني وتباغتني من خلال أسئلة بعض أفرادها التي تحمل إما طابع الشكّ ،وإما الحيرة معي وإما الاشفاق لما لاقيته في سفري ..
تساؤلات عِدة تلقيتها وكان كثيرٌ منها يحمل طابع الإنسان اليمني ،طيبته ،سمو أخلاقه،فطرته ، أصالته ..
سُئلتُ كثيراً من الأخ ؟ أجيبُ عليهم : عبدالكريم المدي .... وواالخ
 من الذي بجوارك؟
 رفيقي / مرافقي / مروان؟
أين بطاقته؟
هو ابن أخي..
 أين تصريح حمل السلاح ؟
أردُّ أحيانا بسؤل من قبيل : هل ممنوع على كل أبناء المنطقة حمل السلاح الشخصي ( مسدس+ آلي ) ومعروف أن معظم الناس في الأرياف مسلحون ؟
يردُّ أحدهم : نعم ، ومن لم يعطنا تصريحا أو وثيقة تجيز له حمل السلاح لن يمر به .
فأبادر لاعطائهم ثلاث بطائق تُعريفية دفعة واحدة خشية المبيت والمشاركة في طهو صحون الوجبة القادمة .. يعتذرون بلطف ويأذنون لي بمواصلة السير ،وعندما أعبرُ من نقطة إلى أخرى تدفعني رغبة عارمة للخروج من تلك الوحشة إلى فضاء أكثر أُلفة ،وغالبا ما كنتُ أشعر برغبة الطيران من السهل إلى الجبل ، من الثرى إلى الثرياء، من الدروب الضيقة إلى الفضاءات الواسعة ، من النقاط الأمنية إلى المطبات المهجورة في الطرقات التي كانت قديما تُنبّهنا بوجود باعة للقات والبلس ،أوالفواكه والمياه المعدنية.

مشاعر متناقضة كانت تعنون الساعة الواحدة بعد منتصف الليل في إحدى النقاط الأمنية (بعد سوق الثلوث) التي كان أفرادها يتأملون في تفاصيل وجهي ، وتفاصيل السيارة وما بداخلها.

وفي بعض النقاط كان هناك أطفال بعمر أبنتي ليلى وأحيانا أقل منها بكثير يحققون معي ،يحملقون في شخصي ،يفحصون بطائق هويتي التي لا يعلم أكثرهم  ماالذي كُتب عليها،وهذا ما كان يُضاعف من إحباطي وحجم الفراغ الموجود بداخلي وفي محيطي الذي يملأني مزيدا من الغياب..
أما تكرر الأسئلة التي كانت تُختتم جميعها بود بيننا، فقد جعلتني خبيرا في كيفية مواجهة طريق وأمكنة تفوح منهما رائحة البارود وأصداء طبول الحرب وصرخات الأطفال التي كانت تُدوّي في الأرجاء مع كل قذيفة وصاروخ يهزّان المكان ويُحطّمان قلوبهم الصغيرة ،
 قبل أن تتحطم فوق رؤسهم أسقف وجدران بيوتهم التي بٌنيت دون أن يراعي مهندسوها مثل هكذا فصول .

من الانصاف أن أبعث بعرفان للأخ( أبو زيد) أحد قيادات النقاط الأمنية( الواقعة ما بين سوق الثلوث والمهلاله) ، الذي يمتلك ذخيرة وافرة من الأخلاق وقيم الشهامة وروح المسؤلية.
أخيرا:
في تصوري أن رفع تلك النقاط الأمنية التي قد يخلق وجودها مشاكل مع الناس ،سيما وقد أنتهت الحرب، خطوة مطلوبة ومحمودة من قِبل المواطنيين وتُعدُّ عاملامساعدا لإعادة جسور الثقة وتطمين الجميع.

ضف إلى ذلك أن بقاءها يجعل المرء يحس بوجود قيود ما تحدّ من تحركاته وممارسة أنشطته المختلفة الزراعية والتجارية وغيرها.

حول الموقع

سام برس