بقلم/ جميل مفرِّح
مثل قارورة ماء فارغة، يتعثر بها ظامئ تائه في قلب صحراء الربع الخالي.. وربما كخريطة كنز، سبق وأن تقاتل من أجله السندباد والأربعون سارقاً لثلاثين عاماً، ثم تصالحوا بتقاسمه..

كأن تخسر ورقة اليانصيب بفارق رقم تافه واحد.. أو أن تُعطى مفتاح سماء أخرى غير التي أنت ذاهب إليها..

مثل أن يحكم عليك في جريمة قتل حدثت في أرض بعيدة جداً، لم يسبق لقدميك أن وطأتاها.. أو أن تصر على الادعاء بأنك من وضع نظرية النشوء والتطور، أو كتب قصيدة نهج البردة..

وربما مثل أن تتصفح نسخة، من كتاب ألفته أنت، مطبوعة باسم كاتب آخر.. أو أن تجد آخر صورة التقطت لك مطبوعة على جواز سفر لشخص ليس من حتى من جنسيتك...

أن ترث من آخر أطفالك ثروة، لا تستطيع أن تدعي أنها لم تكن على بالك، أو حتى أن توصي بها لوالديك اللذين ماتا قبل عشرين سنة..

مثل أن تبني خلية لجيش من الذباب، وتطلب منه أن يجمع العسل الذي سكبته مسبقاً على مقابض الأبواب والنوافذ وبعض من اللوحات الإرشادية وإشارات المرور في الشارع..

أن تغيِّر مهام عقارب الساعة، وتبقي كلاً منها على حجمه واتجاهه المعتادين.. أو أن تدخن أعقاب سجائرك وتفتت تبغها الفاخر في المنفضة..

مثل أن تفض نزاعاً بين الهيدروجين والأوكسجين، وتفصل بين كل ذرة من هذا وذرتين من ذاك بحاجز من ماء.. أو أن ترتب لناطحة سحاب سريراً مريحاً في أضيق مكان بداخلك..

أن تبادل بين مكاني قدميك ويديك، وتصر على أن تمشي على قدميك وتحك بكلتا يديك مؤخرة رأسك أو تفرك بهما عينيك.. أو أن تتبرع بملابسك الداخلية كزي لطلبة مدرسة خاصة..

يقال أن مثل كل هذا لا يستحق أن تتلفت من أجله، حتى تصاب بدوار الأسئلة، أو أن يُعجز لغتك عن التنفس، أو أن يجعل لسانك يتعثر في حصى لا يرى بالعين المجردة..

إنه مثل أن تهدم جداراً ضخماً على رأس طفل صغير، فيظل حياً ومشوهاً.. مثل أن يستيقظ طائر يافع وجناحاه مقصوصان.. أو أن تلد امرأة جنيناً ميتاً منذ الأزل.

إنه كما يُصب رصاص مذاب في مريء عجوز تسعينية.. وربما ليس أقل من أن تهدم برجاً هائلاً وأنت تبحث عن قملة سقطت من رأسك..

لا لا.. هو أكبر، أكثر، أفدح، وأفظع
من ذلك بكثير..

إنه أكبر من خذلان الجاذبية للأرض، ومن أن يكون نيوتن هو من سقط على التفاحة.. وأكثر من أن يصبح مجرد ذكرى لمذبحة في القرن الماضي.. وأفدح مما لم تتوقعه غرناطة.. وأفظع من أن يستطاع معه صبراً..

إنه مثل أن تتبرأ منك أصابعك فجأة وتتحول إلى عيارات نارية موجهة صوب جمجمتك.. أو أن يدوس كعب قدمك إما على ماجلان أو على لغم نهاية العالم..

لا.. للأسف.. ما يزال الأمر أبعد وأصعب من أن يغدو قابلاً للوصف والمماثلة..

ما يزال كل هذا يبدو كجمرة سيجارة في فم فزاعة، تقف على قمة جبل خارج المدينة.. أو كحبة رمل في عاصفة ستضرب أطرافك ليلة الغد.. وها أنا أراقب التفاصيل الدقيقة في سيرة الجمرة، وفي يدي قائمة بمواصفات حبة الرمل..

إنه... إنه... حسناً..

إنه أسوأ من أن تتخيل نقطة بالكاد ترى، بين حاصرتين ضخمتين، وتستنزف في إثره أرصدتك من التحسُّب والترصُّد والترقُّب، وتسفك من أجله كل هذا القدر من دماء الكتابة.

حول الموقع

سام برس