بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
الوهم الثاني عشر: الدولة الواحدة:

الوهم الذي نتحدث عنه مرتبط بما يسمى تفكيك النظام العنصري الصهيوني من خلال النضال السياسي، ولسنا نتحدث هنا عن تحرير فلسطين من الصهاينة، وفرض إرادة الشعب الفلسطيني على أرضه من خلال دولة واحدة مستقلة، أو كجزء متحد مع أمته العربية الإسلامية، فهذا ليس وهماً، بل هو حقٌّ سيتحقق طال الزمان أم قَصُر.

قد يبدو الحديث عن خيار "الدولة الواحدة" باعتباره وهماً في العمل الفلسطيني مزعجاً لفلسطينيين عديدين، إذ يتم تسويق هذا الخيار باعتباره الخيار الأفضل بعد سقوط خيار "حلّ الدولتين"، والذي نشترك معهم في القناعة بسقوطه، وأنه وهم من الأوهام التي تحدثنا عنها سابقاً. كما قد يراه العديد من فلسطينيي الأرض المحتلة 1948 طرحاً مقبولاً في مواجهة الكيان العنصري الصهيوني الإسرائيلي. وهو في الوقت نفسه، يُقدِّم منطقاً يمكن أن يكون مقبولاً في البيئة الدولية، خصوصاً في ما يتعلق بفكرة تفكيك النظام العنصري "الأبارتايد" على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا، وباعتبار أنه آخر كيان عنصري في البيئة الدولية.

كما تجد هذه الدعوة أرضيتها التاريخية في أن النضال الفلسطيني تركز على فكرة الدولة الواحدة طوال فترة الاحتلال البريطاني 1918-1948. وكانت هناك عودة لتبني الفكرة في طرح حركة فتح سنة 1968؛ عندما دعت لمشروع الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة التي يتساوى فيها المسلمون والمسيحيون واليهود، كما تبنتها فصائل فلسطينية أخرى.

ويختلف دعاة الدولة الواحدة بين فكرة الدولة ثنائية القومية التي يتوافق فيها العرب واليهود على تقاسم السلطة، دون أن يُسيطر طرف على آخر؛ وبين الدولة الديمقراطية العلمانية التي تتعامل مع الجميع كمواطنين متساوين أمام القانون، ودون النظر إلى خلفياتهم الدينية والعرقية، وهو الخيار الذي يميل إليه أغلب دعاة الدولة الواحدة.

وربما لَوَّح دعاة حلّ الدولتين (كما فعل عدد من قيادات السلطة الفلسطينية) بترك هذا الحل إلى حلّ الدولة الواحدة، كنوعٍ من التهديد والضغط باتجاه دفع الاحتلال الإسرائيلي للمضي بشكل جدي في حل الدولتين.

* * *

أما الاحتجاج بحل الدولة الواحدة خلال الاحتلال البريطاني (قبل 1948) فهو في غير مكانه منهجياً وموضوعياً؛ إذ إن الشعب الفلسطيني كان ما يزال على أرضه ولم يتعرض للتهجير، وكان من حقه وفق أنظمة الأمم المتحدة وبعد انتهاء الانتداب البريطاني أن يمارس حق تقرير المصير، حيث كان ما يزال يملك أكثر من 94 في المائة من الأرض، وأكثر من 68 في المائة من السكان. أما وقد نشأ الكيان الصهيوني على نحو 77 في المائة من أرض فلسطين، بعد أن هجَّر وطرد نحو 83 في المائة (أكثر من 800 ألف) من الفلسطينيين المقيمين على تلك الأرض، فقد تحوَّل المشروع الوطني الفلسطيني إلى مشروع تحرير، وليس إلى مجرد حقوق متساوية مع المستعمرين المحتلين، المغتصبين للأرض والمُشرِّدين لأهلها الأصليين.

من ناحية ثانية، فإن الاحتجاج بفشل حلّ الدولتين كذريعة للذهاب إلى حلّ الدولة الواحدة، بعد أن أتم الصهاينة احتلال فلسطين؛ هو في حقيقته لا يعبّر عن جاذبية الفكرة أو عمليتها، وإنما يعبّر عن مدى الغرور والعجرفة والتمادي في فرض التصورات الصهيونية؛ الذي حال دون الوصول إلى أي من "الحلول الوسط". إذ إن اللجوء الفلسطيني والعربي إلى حلّ الدولتين لم يأتِ إلا بعد استنفاد الوسائل لحل الدولة الواحدة، والقناعة اليقينية بالرفض الصهيوني المطلق لها؛ لأن حل الدولة الواحدة يعني ببساطة إنهاء المشروع الصهيوني وتفكيكه، وموافقته عليه تعني إلغاءه لنفسه بنفسه، وإطلاق "رصاصة الرحمة" على رأسه.

فإذا كان حلّ الدولتين مقبولاً بدرجات متفاوتة لدى شرائح إسرائيلية صهيونية معتبرة؛ فإن حلّ الدولة الواحدة لا يجد له سوقاً ولا اعتباراً جدياً في أيٍّ من الأوساط الإسرائيلية الصهيونية. ولذلك، فلو افترضنا جدلاً أن حلّ الدولتين "ممكن" فإن حلّ الدولتين يدخل في دائرة "المستحيل" وفق رؤية المجتمع الاستيطاني الصهيوني؛ وعندما يكون حلّ الدولتين مستحيلاً يصبح حلّ الدولة الواحدة أكثر استحالةً.

ولعل الصهاينة عندما يجدون أنفسهم مضطرين تحت ضغط العمل المقاوم للجوء إلى الخيارات الصعبة، فإنهم سيفضلون مائة مرة حلّ الدولتين على حلّ الدولة الواحدة؛ لأنه سيبقى لهم مشروعهم الصهيوني، وسيطرتهم على معظم الأرض وعلى الطبيعة اليهودية لكيانهم، بالإضافة إلى استمرار اعتراف البيئة الدولية بهم. وبشكل عام، إذا ما غاب الشريك الإسرائيلي اليهودي المفترض في حل "الدولة الواحدة"، فإن هذا الحل يتحوَّل إلى وهم وسراب وتفكير تمنيات.

* * *

أما الحديث، من ناحية ثالثة، عن فك العلاقة بين اليهود والصهيونية وسط التجمع الاستيطاني في فلسطين المحتلة، فربما بدا منطقياً لأول وهلة، غير أن تجربة المائة سنة الماضية لمن نظَّروا لهذه الفكرة وخصوصاً من التيارات اليسارية، قد أثبتت فشلها.. بل إن الشواهد تصبّ باتجاه مزيد من التطرف الديني والقومي والعنصري لليهود الصهاينة في فلسطين المحتلة، وخصوصاً في السنوات العشرين الماضية.

ولعل التجربة الواقعية تشير إلى أن هذا النوع من فكّ العلاقة لا تظهر بوادره إلا تحت ضربات المقاومة والعمل الانتفاضي الفعال؛ الذي يُفقد المجتمع الصهيوني العمودين اللذين يستند إليهما في احتلاله وهما الأمن والاقتصاد، ويُدخله في أزمة البحث عن البدائل، ويحوّل بقاء المجتمع الصهيوني والاحتلال إلى عملية مكلفة لا تُحتمَل، وإلى عبء لا يُطاق. أما وأن المجتمع الصهيوني "يمدُّ رجليه" في بيئة عربية إسلامية ضعيفة مفككة متخلفة ومُطبّعة، ويعيش الفرد فيه بدخل سنوي يوازي دخل الفرد في أوروبا.. فإن كلّ محاولات الإقناع وكلّ قصائد الهجاء والغزل والرجاء لا تُحرِّك شعرةً لدى الصهاينة.

من جهة رابعة، فإن الإغراء الذي يشكله حلّ "الدولة الواحدة" لدى المجتمع الدولي، على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا، لا يبدو طرحاً متماسكاً تماماً. فالقوى الغربية الكبرى التي رعت وترعى المشروع الصهيوني، ترى فيه قلعة متقدمة في قلب العالم العربي والإسلامي لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية في السيطرة على المنطقة، وإبقائها في دائرة الضعف والتشرذم والتخلف، وسوقاً لمنتجاتها.

ولذلك، لم يكلّ الأمريكان أو يملُّوا على مدى العقود الماضية وباختلاف إداراتهم ورؤسائهم من أن "إسرائيل" هي حجر الزاوية في سياستهم الشرق أوسطية. وتدرك هذه القوى أن الطبيعة "اليهودية الصهيونية" لهذا الكيان هي متطلبٌ لبقائه واستمراره، كما أنها لا ترى فيه نظاماً عنصرياً بالنظر إلى الخلفيات الدينية والثقافية لدى كثير من صانعي القرار، خصوصاً أولئك الذين يملكون خلفيات بروتستانتينية.

وإذا كانت هذه القوى تتبنى حل الدولتين فإن انتقالها إلى حلّ الدولة الواحدة يُصبح أكثر صعوبة؛ إلا إذا تحوّل هذا الكيان إلى عبء كبير عليها وأصبح ضرره أكبر من نفعه، وهذا أمر يرتبط أساساً باستعادة المنطقة لحالتها النهضوية وعناصر قوتها، وبتصاعد العمل المقاوم في فلسطين.

بالإضافة إلى ذلك فإن حلّ الدولتين ما زال يلقى قبولاً من معظم دول العالم، حيث يعترف 137 منها رسمياً بدولة فلسطين؛ بالإضافة إلى دول عديدة أخرى تتبنى هذا الحل ولكنها بانتظار تحقيق نجاحات في مسار التسوية. فإذا كان هذا حال حلّ الدولتين الذي فشل، وتجاوزه الكيان الصهيوني، وتعامل كـ"دولة فوق القانون" ولا قيمة للضغوط الدولية عليها، فما بالك بحلّ "الدولة الواحدة" الذي سيحتاج إلى مشوار من نوعٍ آخر؛ قد يجد الفلسطينيون أنفسهم "بعد عمر طويل" أنهم كانوا يجرون خلف السراب.

وفي كل الأحوال، فقد حذرنا سابقاً من الوقوع في وهم "الشرعية الدولية" التي لا يمكن المراهنة عليها في انتزاع الحقوق وتحرير الأرض، خصوصاً في الحالة الفلسطينية.

من ناحية خامسة، لا يجيب دعاة الدولة الواحدة عن هوية الأرض والإنسان في فلسطين بعد إقامة هذه الدولة، وهل ستعود إلى طابعها العربي الإسلامي؟ وهل من حق كافة المستوطنين اليهود الذين جاؤوا على مدى أكثر من مائة عام من كافة بقاع العالم فقط لمجرد كونهم يهوداً، الاحتفاظ بحق المواطنة والجنسية "الفلسطينية"؟! وهل يحق لمن جاء بقوة السلاح وتحت غطاء الاحتلال وضد إرادة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، أخذ تلك المواطنة والجنسية. وعلى أي أساس يرضى دعاة الدولة الواحدة إعطاء هذا الحق لمجموعات من الغزاة المحتلين؟!

وقد يجادل البعض بأنه عندما تتشكل الدولة الواحدة، فإن الكثير من هؤلاء سيرغبون بالعودة إلى بلدانهم، بعد انتهاء المشروع الصهيوني وفشله. ولذلك فإنه يوافق "تكتيكياً" على فكرة الدولة الواحدة.. لكن ذلك ضربٌ من "السذاجة" السياسية إذا لم يكن يدرك أن الصهاينة واعون لهذه المآلات تماماً.

أما الاعتبار السادس الذي يجب أن يوضع في الذهن، فإن الدعوة إلى الدولة الواحدة قد تنعكس سلباً على العمل المقاوم ضد المشروع الصهيوني، بتحويل المعركة إلى معركة حقوقية سياسية قانونية؛ وتصبح هروباً من المقاومة وتكاليفها وأثمانها وتشتيتاً للبوصلة؛ في الوقت الذي تشير فيه الدلائل إلى الفعل المقاوم بكافة أشكاله (وخصوصاً المسلح) هو المؤهل، كما أشرنا، لتوفير "الحرارة" الكافية لتفكيك العلاقة بين اليهود والصهيونية.

ومن ناحية سابعة، فإن الدعوة للدولة الواحدة قد توفّر "شرعنة" غير مقصودة للاحتلال في الضفة الغربية، باعتبار ضمها إلى مشروع الدولة الواحدة، والتعامل "الواقعي" مع الاحتلال باعتباره الدولة التي يسعى إلى تفكيك علاقتها بالصهيونية؛ في الوقت الذي يتابع المشروع الصهيوني عمله المنهجي المنظم في تهويد الأرض والإنسان، ويترك لهؤلاء أن يستفرغوا جهودهم وأوقاتهم، كما استفرغ إخوانهم دعاة حلّ الدولتين جهودهم في السنوات الخمسين الماضية.

وثامناً، وأخيراً، يدعو البعض للدولة الواحدة، حتى لا يرفع الصهاينة عقيرتهم بأن دعاة مشروع التحرير يريدون أن "يرموا اليهود في البحر"؛ وهي بالتأكيد دعوى كاذبة.

وباختصار، فإن مشروع التحرير هو مشروع نهضوي حضاري إنساني، وأصحاب هذا المشروع معنيون بعودة الحقوق إلى أصحابها وبعودة فلسطين إلى أهلها؛ وبتحقيق العدل لكل إنسان مهما كان دينه وطائفته أو قوميته وعِرقه، وليسوا معنيين بتقديم الوعود والتنازلات المجانية المسبقة لمن دمّر فلسطين وهجَّر شعبها ونهب خيراتها. ولا ينبغي لأصحاب المشروع أن يحشروا أنفسهم في زاوية البحث عن حلول للمشروع الصهيوني ونتائج احتلاله، والتي ينبغي أن يتحملها بنفسه.

وفي المقابل، فإن الصهاينة أنفسهم لا يُبررون للعالم كيف رموا بالفعل الشعب الفلسطيني في حرب 1948 في البحر وشتتوه في أقطار الأرض، ولا يهتز لهم ضمير على جرائمهم على مدى أكثر من سبعين عاماً، ولديهم من الوقاحة ما يكفي لرفض حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم، بالرغم من أن كل العالم يقف معهم في هذا الحق. وإذا كانوا يملكون حداً أدنى من الإنسانية، فليكفّوا عن إثارة "فزاعة" المستقبل، وليعالجوا مثلاً بعض ما اقترفت أيديهم فعلاً تجاه شعب فلسطين، وليرضخوا لحق اللاجئين الفلسطينيين الطبيعي والبديهي بالعودة.

* * *

ستبقى فكرة الدولة الواحدة في ظاهرها ذات إغراء ومنطق قد يجذب العديدين؛ لكنها تظل في السياق المنهجي والموضوعي فرضية لا يمكن البناء عليها، وعملاً دعائياً تسويقياً لا يمكن المراهنة الحقيقية عليه؛ إلا إذا كان المقصود بالدولة الواحدة تحرير فلسطين وإسقاط المشروع الصهيوني تحت ضربات المقاومة، وإقامة هذه الدولة وفق إرادة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية.

وبالتالي، سيعود الفلسطيني والعربي والمسلم وكل أحرار العالم، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى المربع الأساسي لمشروع التحرير وهو مربع المقاومة.

المصدر: موقع "عربي 21"، 15/10/2021

حول الموقع

سام برس