بقلم/ د. راكان عبدالعزيز الراوي
من الطبيعي أن يجتهد الإنسان باستمرار في تبني سلوكيات إيجابية في جوانب حياته المختلفة، علماً أن المنطقة الفاصلة بين ما هو إيجابي وما هو سلبي، قد تكون في بعض الأحيان رمادية اللون، إذ يتباين تقديرها من شخص إلى آخر، وأحياناً يتأثر ذلك التقدير باختلاف المواقف.

ومقال اليوم يستهدف تحليل الآثار الجانبية السلبية Negative Side Effect، الناتجة عن مبالغة البعض في تبني سلوكيات إيجابية في عالم الواقع، ظناً منهم أنهم يفعلون حسناً، في حين أنهم بمبالغتهم هذه قد يدخلون منطقة السلبية من حيث لا يشعرون.

من وجهة نظرنا، هناك آثار جانبية سلبية تنتج عن المبالغة في تبني سلوكيات إيجابية، يمكن أن تظهر بشكلٍ أساسي على هيئة اختلال في مبدأ التوازن، إذ إن الحياة عموماً قائمة على موازنات موضوعية يمكن الاعتماد عليها في تحديد ما ينبغي القيام به من سلوكيات إيجابية، مقابل ما ينبغي الامتناع عنه من سلوكيات سلبية، مع أهمية الانتباه إلى ضبابية الحد الفاصل بين الإيجابي والسلبي. إلى جانب الاختلال في التوازن، قد تظهر عواقب أخرى، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الحدية المنفرة، وضعف العلاقات الإنسانية، والتي سنقوم بتوضيحها من خلال مجموعة من الأمثلة.

أولاً: المبالغة في التركيز على سلوك إيجابي، مثل القراءة، وممارسة الرياضة، وتعلم مهارة جديدة. لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذه النماذج السلوكية الـ 3 إيجابية من حيث الأصل، ولكن المبالغة في تطبيق أي منها قد يؤدي إلى التقصير في سلوكيات إيجابية أخرى، مثل: الجلوس مع أفراد الأسرة، والقيام بأعمال تطوعية تخدم المجتمع، والتواصل مع الأصدقاء. ما نود قوله إن الموازنة تقتضي إعطاء كل ذي حق حقه، من دون إفراط ولا تفريط.

ثانياً: المبالغة في التركيز على سلوك إيجابي، مثل النوم المبكر، وتنظيم الوقت، ورفع مستوى الجودة في كل النشاطات الحياتية. لهذه السلوكيات انعكاسات محمودة على حياة الإنسان، ولكن الالتزام بها بشكل حدي، وفي جميع المواقف، ومن دون تفعيل لمبدأ الإدارة بالاستثناء؛ ربما يجعل الحياة جافة وغير جميلة. يضاف إلى ذلك، أن من يبالغ في تطبيقه لهذه السلوكيات، يعمل على إضعاف البعد الإنساني في شخصيته، مقابل دعم البعد الآلي الذي يتنافى مع مبدأ المرونة.

ثالثاً: المبالغة في التركيز على سلوك إيجابي، مثل إحاطة الإنجازات الخاصة بدرجة عالية من السرية، والاهتمام بتحقيق مكاسب ذاتية، والاجتهاد في إثبات صحة وجهات النظر عند الحوار مع الآخرين. على المستوى الشخصي، لا يوجد لدي اعتراض على هذه السلوكيات من حيث المبدأ، ولكن تطبيقها مع كل الأشخاص، وفي جميع الظروف، ومع كل صغيرة وكبيرة، يمكن أن يؤدي إلى إضعاف العلاقات الإنسانية بين الأفراد، الأمر الذي قد يؤثر سلباً على جسور المودة الرابطة بين الأحبة والأصدقاء.

إشكالية الآثار الجانبية السلبية، الناتجة عن المبالغة في الالتزام بسلوكيات إيجابية، تذكرنا بقانون مهم في علم الاقتصاد - مع وجود فارق بالمضمون – وهو قانون تناقص المنفعة الحدية (Law of Diminishing Marginal Utility). فكرة القانون الاقتصادي تنص على أنه كلما ازداد استهلاك شخص من منتج ما، مع بقاء استهلاكه للمنتجات الأخرى ثابتاً، فسيكون هناك انخفاض في المنفعة الحدية التي يستمدها الشخص من استهلاك كل وحدة إضافية من هذا المنتج. عند إسقاط هذا القانون على موضوع المقال، يمكننا القول إن منحنى الآثار الجيدة المتولدة عن سلوكيات إيجابية يستمر بالارتفاع إلى حدٍ معين، وبعد ذلك يتوقف، ثم يبدأ بالتناقص التدريجي لاحقاً، هذا التناقص يعني الدخول ضمن إطار السلبية.

ختاماً نقول.. ينبغي على الإنسان الواعي أن يسدد ويقارب، ويزن الأمور بميزان المنطق والموضوعية، ويجتهد قدر الإمكان في إمساك العصا من الوسط. قد لا تكون الموازنة سهلة ويسيرة بالضرورة، خصوصاً مع حالة التشويش الذهني التي يعاني منها الفرد أحياناً، والتي قد لا تمكنه من التمييز على وجه الدقة بين الإيجابي والسلبي، ولكن يبقى شرف المحاولة أمراً عظيماً، يستحق أن يدفعنا نحو تحسين سلوكياتنا بشكل مستمر، مع أهمية الإنصات إلى من نثق في آرائهم؛ بهدف التعرف على وجهات نظرهم بتصرفاتنا، والعمل على توظيفها بشكل فعال في رحلة تحسين الذات.

نقلاً عن البيان

حول الموقع

سام برس