سام برس/ خاص
(شجون الغريبة) للكاتب علوان الجيلاني واحد من أهم الكتب العربية التي درست وتتبعت قصيدة النثر منذ البدايات وحتى اللحظة.
عرض/ جميل مفرح
عن أحوال قصيدة النثر و(تحولاتها من صفحات "مجلة شعر" إلى صفحات الفيسبوك) أصدر الكاتب اليمني علوان مهدي الجيلاني كتابه الجديد (شجون الغريبة)..
الكتاب الذي يقع في 440 صفحة من القطع الكبير صدر عن دار عناوين بوكس في القاهرة.. وإضافة إلى المقدمة التي تضمنت خلفيات عن التسمية ومبرراتها، يحتوي الكتاب على أربعة أبواب هي (أرض الشعر الجديدة)، (حين فتح العالم ذراعيه)، (في وضعية التوافق)، (ألوان الفراشة ومذاقاتها).. ثم ثلاثاً وعشرين مقاربة تتوزع تحت تلك الأبواب.. حيث يتناول الكتاب أسباب ظهور هذا الشكل الشعري من خلال قراءة واسعة في تبدلات النسق المعرفي وأثرها على النوع الشعري، مستعرضاً الإرهاصات الأولى كما عبرت عن نفسها بين عامي 1903م و1954م من خلال نصوص لـ( جبران خليل جبران، أمين الريحاني، مصطفى صادق الرافعي، حسين عفيف، جورج حنين، توفيق الصايغ).. ثم يستعرض تحولات قصيدة النثر من استنساخ النموذج الغربي إلى تضمينات الهوامش العربية من خلال نصوص لـشعراء كثر منهم على سبيل المثال (أنسي الحاج، أدونيس، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، يوسف الخال، بول شاوول، عباس بيضون، صلاح فائق، عبدالرحمن فخري، سيف الرحبي، عبدالودود سيف، أمجد ناصر، أحمد الزراعي، محمد عبدالوهاب الشيباني) وأمثالهم، إضافة إلى نقاشات واسعة للآراء والتنظيرات المبشرة بقصيدة النثر والمؤثلة لها، أو تلك المعارضة لها والمتوجسة منها طوال الوقت، ناهيك عما شاب بداياتها في مرحلتها الأولى من التباسات، ومما أضافه لها شعراء الهوامش العربية من إضافات أو تضمينات ذات نكهة تحمل سمة الخصوصية.

تالياً يتعرض المؤلف للتحول الذي أصاب قصيدة النثر في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، حيث تلعب الشبكة العنكبوتية دوراً هائلاً في تغيير قواعد اللعبة، تتبدل أعراف النشر، ويتراجع دور الصحيفة والمجلة ومعهما يتراجع دور المهيمنات التي كانت تمثل الموجه للشعراء الجدد، وذلك تزامناً مع مجموعة ملتقيات تحاول التأسيس لمرحلة نصية جديدة، إضافة إلى مجموعة من المبادرات والابتكارات النصية مشفوعة بكتابات تنظيرية واسعة.. وقد انعكس ذلك كله على نصوص الشعراء التي تحملت بمضامين تستجيب للحظتها، وتعبأت بمعجم دلالي ووسوم لم تكن تعرفها من قبل.
وفي هذا السياق يستحضر المؤلف كتابات ونصوصاً غزيرة، من جغرافيات عربية مختلفة منها على سبيل المثال (هاني الصلوي، عبدالمجيد التركي، طه عدنان، إيهاب خليفة، جواد الحطاب، قاسم وادي، طه الجند، محمد المنصور، جميل مفرح، مأمون التّلب، صالح قادر بو، علي جاحز، أحمد السلامي، فايز حمدان، بشير المصقري، عبدالنور إدريس).

موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) الذي تحول منذ خمسة عشر عاماً إلى أهم منابر النشر بالنسبة لقصيدة النثر العربية، سوف يحظى من المؤلف بمقاربات واسعة تتأسس في رصده الواسع لتأثير هذه المنصة على قصيدة النثر حتى أنه كان أول من استعمل مصطلح (قصيدة النثر الفيسبوكية)، في هذا السياق يقول: (تبدَّل الأمر تماماً مع إطلالة العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.. لقد أدى انتشار موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" إلى نقلة هائلة في مشهد الكتابة بشكل عام، والمشهد الأدبي بشكل خاص، فبعد عقد العشرية الأولى انتهت سلطة الصحف والملاحق والمجلات الأدبية والثقافية تماماً، وصار حضورها شرفياً، أو يتعلق بالاعتياد عليه كجهة تقليدية للنشر، أو لأغراض التوثيق، خاصة حين يتعلق الأمر بالنشر في المجلات الشهرية والدورية، إلى جانب ذلك أنهى "فيسبوك" سلطة الأيديولوجيا، وأنهى سلطة الشلل الأدبية، كما أنهى محاذير ومحظورات النشر كافة، فوق ذلك وسع دوائر التلقي، وفتح الباب على مصراعيه لاجتراح جماليات نصية مغايرة، ثم إن النشر صار ذاتياً أكثر، ومباشراً أكثر.. انتهى زمن الورق تماماً، حيث تتم الكتابة عبر الهاتف أو الكمبيوتر على الصفحة الشخصية في فيسبوك، أو على منصة التغريدات في تويتر، ويختار الشاعر بنفسه تعميم نصه لكل الناس، أو تخصيصه للأصدقاء عموماً، أو لعدد معين من الأصدقاء، حتى النص الذي لا يريد الشاعر نشره، فهو يكتبه وينشره لنفسه عبر تفعيل خاصية "أنا فقط"، وصار معظم الشعراء يجمعون مادة مجموعاتهم الشعرية من صفحاتهم).

ينظر المؤلف إلى (قصيدة النثر الفيسبوكية بوصفها صعقة ذهنية) وهذا عنوان فصل من فصول الكتاب حيث تمكن موقع "فيسبوك"، من وضع بصمته على قصيدة النثر التي تعرضت لمجموعة استبدالات عميقة تجمع بين القطيعة مع الماضي والتقاطع معه في نفس الوقت، فهذه القصيدة أثبتت خلال عقد ونصف العقد من تاريخ هذا الفضاء قدرتها أكثر من غيرها على تجسيد صعقته الذهنية، والإحساس بلحظته بوصفها لحظة مفصلية في تاريخنا الشعري.. فقد اختلت مسلمة الزمن، إما عن طريق الاستبدال، وإما عن طريق الاستدارة، وتغيرت المحفزات، صار الشاعر يخاطب مارك (زوكربيرغ) مؤسس منصة فيسبوك، بوصفه رمزاً لهذا الفضاء الافتراضي، وبوصفه بديلاً للمخاطَب القديم في الشعر، الطلل، الصديق، رفاق الرحلة، الليل، الراحلة، الفرس، الورقة والقلم.. إلخ، لكنه أكثر من ذلك يخاطبه بوصفه ملهِماً ومحفزاً للكتابة، إنه شيطان الشعر عند العرب القدماء، أو أبولو آلهة الشعر عند الإغريق.
الاستبدالات تتحول إلى محفزات بقدر ما تتحول إلى تفضيلات صارت مع الوقت تمتلك ملموسية واضحة مثل ميل معظم شعراء قصيدة النثر الفيسبوكية إلى نشر نصوصهم خالية من العناوين، فالشعراء بمرور الوقت صاروا يخبرون ذلك نتيجة ما عرفوه عن أنفسهم، وهم يصافحون منشورات الآخرين عشرات المرات كل يوم، كما خبروه من تجاربهم الخاصة في نشر نصوصهم، ومعرفتهم بوجود هذه الخاصية في التلقِّي الفيسبوكي.

من جملة الاستبدالات التي يرصد كتاب (شجون الغريبة) تعرض قصيدة النثر لها؛ مجموعة السمات الناتجة عن التحامها بالفضاء الافتراضي، فهي بحكم نشرها كحالات كانت أكثر امتلاكاً لإمكانية تقديم نفسها بوصفها محايثاً لحياتنا اليومية، وقد نجحت نجاحاً عظيماً في تحويل الشخصي واليومي والعادي والمألوف إلى سرديات كبرى، وهي - من خلال بعض تجلياتها المتمثلة على وجه الخصوص في نصوص مجادلة الحب، ونصوص الاعترافات، ونصوص المخاوف، ونصوص الشكوى، ونصوص الرفض والتهكم، والنصوص السِّيريَّة، ونصوص ملاعبة الكابوس، ونصوص اليوميات - تتحول إلى جواذب للمتلقي تفعل به الأفاعيل، فهي تلامسه بسهولة، فيما يصل هو إليها دون أن يصطدم بحواجز تتعالى عليه، أو تتحمَّل بمحمولات أكبر من وعيه. وهو يرصد تجليات ذلك كله من خلال سيل هادر من النصوص لشعراء من جغرافية الوطن العربي كافة، منهم على سبيل المثال لا الحصر (إبراهيم البجلاتي، عيد صالح، عبد المجيد التركي، إبراهيم الحسين، مصطفى الخياط، عادل سعيد يوسف، عبدالله الحسين، كامل الغزي، محمد اللوزي، أمل إبراهيم عمر، صبا الحسني، معاذ حميد السمعي، كاظم خنجر، محمد السندي، كريم جيخور، نجاة عبدالله، محمد زين، أحمد الفلاحي، محيي الدين جرمة، راضية الشهايبي، فتحي سامي، ميلاد ديب، سوزان علي، هنادي السهوي، محمد الخاشب، جميل حاجب، فارس العلي، محمد بن ميلود، فاتنة الغرة، سمر دياب، عبدالباسط محمد أبو بكر) وغيرهم من الأسماء التي تؤكد من خلال حضورها ومقروئيتها، كما تؤكد كثافتها وسعة انتشارها في الجغرافيا العربية على هذا المتغير المذهل.
يقول المؤلف: (لهذه الأسباب تغيَّر واقعُ قصيدة النثر، لم يبقَ من وصف الغريبة إلا المفهوم المتداول في مقاربات الدارسين لها. هنا أجدني أميل إلى القول إن قصيدة النثر كانت تنتظر صيغتها بقدر ما كانت تنتظر آليات توصيلها)، في تعريض واضح بتعليلات طالما رددتها الأجيال السابقة، وكانت تفسر محدودية تلقي قصيدة النثر بكون الأمر يتعلق بطبيعتها النخبوية المتعالية.

المؤلف يخصص القسم الأخير من الكتاب لمقاربات موسعة تناول فيها ست عشرة تجربة فردية تمثل كل تجربة منها مذاقاً من مذاقات قصيدة النثر، منها تجربة الشاعر عبدالمجيد التركي، حيث يؤكد أن الارتباط الشرطي بين تَمثُّل التركي لسؤال فيسبوك (بم تفكر؟) وبين الإجابة بقصيدة النثر (أفكر في كتابة قصيدة نثر)، يعد مؤشراً قوياً على ثلاثة أمور. أولها: كتابة قصيدة نثر تنشقُّ تماماً على السائد، وثانيها: كتابة قصيدة نثر تستجيب لمحفز السؤال (بم تفكر؟) بما تعنيه تلك الاستجابة من احتدام بعوالم الفيسبوك، باعتبارها معطيات داعمة بقوة لطموحات نصه، ثالثها: اجتراح قصيدة نثر تلامس متلقي هذا الفضاء من خلال مجانفة الفوقية المقيتة والتعالي الفارغ، ومن خلال التصفِّي من الشوائب والزوائد وكل ما يمثل ثقلاً على النص وعائقاً يحول دون اتساع تلقيه) مضيفاً: (وهذا ما عنيته حين تحدثت عن تميُّزه بـ"فهم طبيعة آليات النشر في العالم الرقمي كما تمثله منصة الفيسبوك"، وهو أيضاً ما عنيته بـ" قدرته على تطويع قصيدته لتناسب هذا الفضاء"، كذلك هو عين ما قصدته حين تحدثت عن "قدرته على تطويع هذا الفضاء لتجلياته، واستثماره لصالح رغبته ورغبة نصه في التماسف مع تقاليد الكتابة وعدم الانصياع لاشتراطاتها، تلك الاشتراطات التي حولها بعض النقاد إلى ضرب من العبودية للنموذج).

كذلك يؤكد على فرادات تميزت بها مجموعة من التجارب المنتمية إلى لحظتها التاريخية منها مثل تأثير التشعبية والتفاعلية في نصوص الشاعر هاني الصلوي، وانزياح أعراف الكتابة في نصوص الشاعر عباس السلامي، والرمزية السوريالية في نصوص الشاعر إسلام نوار، وغرضية قصيدة النثر في نصوص الشاعر علي جاحز، والسمة الأسطوية المتعلقة بهندسة النص عند الشاعر جميل مفرح، والتجارب الوجودية عند الشعراء إبراهيم النحاس ومحمد العديني، وفاطمة سالم. وقصيدة النثر غير المقصودة في نصوص صالح موسى وعبدالله عبداللطيف وآخرين.

ما يجب ذكره هو أن المؤلف ، وهو أحد كتاب قصيدة النثر أيضاً، قد منح اهتمامه النقدي هذا حول قصيدة النثر صفة المشروع المتكامل طوال خمسة عشر عاماً، وبذل جهداً كبيراً مشرقاً ومغرباً في الجغرافيا وفي المتداول والمتجدد من الكتابة، وحرص على تتبع أهم تجاربها وطرائقها وروادها، ناهيك عن تعايشه مع ثلاثة عقود هي الأبرز تحديدا في منتجها ونضوجها، والأكثر وضوحاً واستجلاء في هويتها واكتمال ملامحها.. ويعكس الكتاب، الذي يتوقع أن يكون واحدا من أبرز العلامات في دراسة وتتبع قصيدة النثر العربية، سعة معرفة واطلاع لدى مؤلفه، الذي سبق وأن أصدر قرابة ثلاثين كتابا بين الشعر والرواية والنقد والتحقيق، ويتميز بسعة معرفية كبيرة في الإنتاج الأدبي العربي في مختلف عصوره، ابتداء من العصر الجاهلي ووصولا إلى عصر التواصل الاجتماعي ومواقعه ومختلف منابر وأدوات الميديا الحديثة.

حول الموقع

سام برس