بقلم/ عبدالله بشارة
قرأت ما سجله المتابع الكويتي اليومي، أحمد الصراف، في عموده، الأسبوع الماضي، حول الأصوات الخارجية التي تتعشم من الكويت أكثر من طاقتها، وتغرس فيها من الصفات ما لم تدعيه ولم نتذوقه، وتطويها بالآمال العريضة بحشو من أفكار لم ترددها، وكل ما في الأمر أن الكويت شافت ما لم يراه الآخرون، وتحملت من أجل الآخر أكثر مما يطيقه أتباع هذا الآخر، ولا أشير إلى هذا الواقع مبالغاً، وإنما عشنا فيه في الستينيات وتواصلنا معه في السبعينيات والثمانينيات، ولم تنقطع ممارسة الكويت في عطائها للآخرين، وفي خطواتها لتحسين أوضاعهم، وفي مشاركتها للدفاع عن أمنهم وعن استقلالية قرارهم، وفوق ذلك مشاركة في أفكار التنمية التي تطرح في برامجهم، وكل ذلك يتم بارتياح وبمباركة من أهل الكويت وباعتناق من أميرها لا سيما مع المرحوم الشيخ صباح الأحمد، طيب الله ثراه.

كانت الكويت متبرعاً ومحسناً وكانت في رفقة السخاء منذ استقلالها، لا تضن على أحد لا بالعطاء ولا بالابتسامة، بالعكس تمارس هذا النهج بصفاء النوايا وتستهدف استحضار السرور لعواصم العرب وغيرهم، وحتى مع الغزو، لم تنسلخ عن تلك الصفات التي حملتها الكويت منذ تولدت الألفة مع حصاد النفط.

وبعد التحرير، كان الاستئناف مع قطار العطاء أسرع مما تصورنا، وكان الشيخ صباح الأحمد، أنقى شهداء التضامن العربي، أكبر محرك لاستئناف المسيرة الخيرة، ومرة أخرى، كنت شاهداً على اللقاءات التي كانت تحدث خلال اللقاءات الإقليمية والعالمية، وفي زواياها الهادئة، وبصراحة كان الوقت وفق تصوراتي، مبكراً على إعادة وصل الحبال التي دمرتها مواقف الارتداد على الشعارات الأخوية العربية، لكنه، بموقف المتيقن، يصر الشيخ صباح على التعالي عن عنف الغضب، وهي الحالة التي صاحبته مع فجيعة الغزو، وأكثر ما يزيدنا اشتعالاً وغضباً أن نتذكر بأن واحداً بخسة صدام حسين يحكم بلدنا لسبعة شهور ويتحكم في مصيرنا ويعبث في تراثنا ويبتهج بما نعانيه من أذى مستخفاً بتاريخنا وبهويتنا وبتراثنا.

الكويت دولة عضو في النادي العالمي منذ عام 1963، ومنسجمة مع قواعد العمل فيه وتسير بانفتاح مع ثقافة العولمة بكل ما فيها من حقوق لكرامة الإنسان واحترام المواثيق التي صدرت بشأنه، وتتواجد في الصف الأول في إسهاماته الخيرية وفي المبادرات في استضافة المؤتمرات ورعايتها وتأمين نجاحها، أهمها عن العراق الذي حطمه صدام حسين وعن سوريا التي بعثر وحدتها حكم الأقلية العلوية، وعن اللاجئين من كل الهويات، وعن المجاعات والأمراض، وفوق ذلك قروض تزال وديون تعدم.

لكن الكويت دولة بحدود وهوية وشعب وأبرز مسؤولياتها الأمن والسكينة والحفاظ على السيادة وتأمين السلم الاجتماعي والحرص على التوافق بين أهلها وترسيخ القواعد التاريخية التي التزموا بها خاصة علاقاتهم بعضهم ببعض، فعندما نتطرق الآن إلى أمن الكويت لا تغيب عنا تجربة الغزو ولا نتجاهل واقع الإقليم المضطرب ولا نستخف بالمخاطر، فيكفي ما أصابنا عام 1990، عندما قصرنا ووضعنا الوهم بدلاً من السهم، واستبدلنا فاعلية التحالف مع الشركاء الاستراتيجيين، بتطمينات الطيبين، أمثال المرحوم الرئيس حسني مبارك.

ومع تجاوز الماضي، كانت أبواب الكويت مفتوحة للوافدين الذين تعايشوا وساهموا واستفادوا من وجودهم، وبنوا بيوتاً وأعمالاً في بلدانهم، وما زلنا نتابع وصول أمواج البشر من آسيا وعالم العرب ولن تتوقف ما لم تصعد الكويت في قوانينها وفي إجراءات الدخول والبقاء والاستمرار وفق إملاءات السلامة والأمن.

الكويت دولة مهمومة بالاستقرار ومسكونة بالخوف من المفاجآت، وإمكاناتها الجغرافية والخدماتية والأهلية رسمت وفق الاحتياجات وليس وفق توقعات الزوار، هناك شروط يتطلبها الأمن ومساحة محدودة للتعليم، وضيق غرف الاستيعاب، وحدود للكثافة السكانية، وهناك ميزانية بمنابع معروفة وفق الطاقات الموجودة ولها سقف، فالخلاصة أن الكويت بلد له حدود في طموحاته وفي ساحة استضافته وفي قواعد البقاء فيه، وفي حجم العمالة التي تفرضها خطوات التنمية، وفوق ذلك فإن هذه الاعتبارات تمر بمراجعات بغريزة إنسانية تترجم المسامحة وحسن الرعاية.

كنت في يوم ما في الأردن، لأقدم محاضرة عن مجلس التعاون في ضيافة جمعية شومان على ما أذكر، وتحدثت بإسهاب عن المجلس، وراعيت الموضوعية، وبعد الانتهاء من المحاضرة بدأت الأسئلة وكنت أتوقعها عن مجلس التعاون، ولكنها كانت عن الدخول إلى الكويت بالتأشيرة وصعوبتها مع تصعيد في حدة النقاش، وقلت، بعد أن ضجرت من التركيز على الوصول للخليج: لولا التأشيرة لتحول نصف الأردن إلى الخليج، فزادت الحدة خاصة أن ذلك كان في آخر أسبوع من شهر يوليو عام 1990، قبيل الغزو، مع استطراب الحاضرين لأنغام الإعلام العراقي آنذاك تجاه الكويت التي يريدها الآخرون الآن واحة خيرية بلا قوانين وبلا هموم أمنية وبدون احتياجات أمنية، ترحب بكل من يستهويه القدوم.

نحن مجتمع منفتح بلا أسرار، بصحافة كلها حيوية تفكك خيوط الغموض وتتسلل إلى داخل الدار، لها معرفة بنوع الحياكة الأمنية في هذا البلد، فتنشر كل ما تراه، وكثيراً ما تحمل بشدة على اجراءات الوطن، ومع ذلك فستبقى دول الخليج جميعها هدفاً، والكويت أكثرها إغراءً وأسهلها إقناعاً وألطفها صدًى وأكثرها حرارة مناخاً وتقبلاً.

عشنا في دول غنية وفي دول لا تزال نامية، وجدنا الأغنياء أكثر حرصاً على أوطانهم، وأقل مرونة في تساهلهم، فمن يذهب إلى نيويورك هذه الأيام لا بد من عرض تذكرة العودة وتأكيد مكان السكن وإظهار الغرض من الزيارة، لأن سلامة الأوطان فوق الاعتبار، ويتواصل التذمر فلا يعبأ حراس الوطن، فأولوياتهم أمنية وسيادة الوطن وسلامة أهله، بهذه الروح تتحصن الكويت بقناعاتها في جدار الأمن والأمان بآليات الردع وليس بالروحانيات.

معرض المرحوم الشيخ صباح وذكرى وفاته

منذ عام فقدت الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر، أميرها الخامس عشر، وحضرت معرض (حياة الشيخ صباح في صور) الذي نظمته مجموعة الحمراء العقارية بإشراف الشيخ فيصل أحمد عبدالله الخليفة الصباح..

كنت في المعرض عند الافتتاح وبحضور عدد أراد المنظمون أن يكون محدوداً، وذهبت في اليوم الثاني المفتوح للجميع، صور الشيخ صباح تدون رواية حياته، صغيراً وشاباً والأهم إبحاره بالكويت إلى كل الأطراف في هذا الكوكب.

كان الشيخ صباح أميراً للكويت، وكان وفياً لأمنها، أخذها إلى دروب ما كانت ضمن جدول الأعمال، منتدى آسيوي ظاهره تجاري لكنه سياسي ثقافي وسياحي، وأراد الكويت مقراً، واحتضن القمة العربية ـــ الأفريقية، واستأثر الأمن والنخوة كل اهتماماته فجاء الاقتناع العالمي باختياره أميراً للانسانية.

جاء كل ذلك من قناعته بأن تكون آليات أمن الكويت ناعمة، بالتواصل الإنساني وسخاء التآخي، كان أميراً بروح الخفير الذي يسهر ويضحي ويتنازل لبقاء الكويت نقية ومحصنة، كان الشيخ صباح أميراً للكويت وخفيراً لأمنها، هذه مأموريته التاريخية، وكانت هذه رسالة الشيخ صباح حملها في كل المواقع التي عمل فيها، ومعرض الصور ينطق بها.

رحم الله الشيخ صباح وأسكنه جنات الخلد.

نقلاً عن "القبس"

حول الموقع

سام برس