بقلم/ مشعل الرشيد
في كتاب عالم الأسرار لمؤلف العالم العربي (مصطفى محمود) رحمه الله، مقال عن أصل اللغات، وهو مقال من أهم المقالات التي كتبها المؤلف في هذا الكتاب الرائع، والذي يوجد به عدة مقالات ثرية بالمعلومات في مجالات عدة سياسية واقتصادية ودينية، ناقشها الراحل من خلال وجهة نظر فلسفية، ففي مقاله عن أصل اللغات يقول:

كانت لي وقفة طويلة منذ زمن أمام أصل اللغات وأنا أتأمل اللفظة العربية (كهف) أجدها في (cavus) وفي اللاتينية (cava) وفي الايطالية (cave) وفي الفرنسية (cave) الانجليزية؛ فأسأل وأنا أراها كلها واحدة:

أي لغة أخذتها عن الأخرى وأيها الأصل، وكان الجواب يحتاج للغوص في علم اللغويات والبحث فى البحار القديمة التي خرجت منها كل الكلمات التي نتداولها وكان هذا الأمر يحتاج إلى سنوات وربما إلى عمر آخر، ودار الزمان دورته ثم وقع فى يدي كتاب عنوانه (اللغة العربية أصل اللغات) والكتاب بالانجليزية والمؤلفة هى تحية عبدالعزيز إسماعيل أستاذة متخصصة في علم اللغويات تدرسهذه المادة فى الجامعة، إذن هي ضالتي!

وعرفت إنها قضت عشر سنوات تنقب وتبحث في الوثائق والمخطوطات والمراجع والقواميس لتصل إلى هذا الحكم القاطع، فازداد فضولي وشوقي والتهمت الكتاب في ليلتين، والكتاب في نظري ثروة أكاديمية وفتح جديد في علم اللغويات يستحق أن يلقى عليه الضوء وأن يقيم وأن يأخذ مكانه بين المراجع العلمية الهامة، وألفت نظر القارئ أولا أن ما يمر بعينيه على الجداول الملحقة بالمقال ويلاحظ الألفاظ المشتركة بين اللغة العربية والانجليزية وبين العربية واللاتينية، وبين العربية والانجلوساكسونية، وبين العرب والفرنسية، وبين العربية والأوروبية القديمة، وبين العربية واليونانية، وبين العربية والإيطالية، وبين العربية والسنسكريتية، ليشهد هذا الشارع العربي المشترك الذي تتقاطع فيه كل شوارع اللغات المختلفة، وهذا الكم الهائل المشترك من الكلمات رغم القارات والمحيطات التي تفصل شعوبها بعضها عن بعض وأعود إلى السؤال:

لماذا خرجت المؤلفة بالنتيجة القاطعة، ان اللغة العربية كانت الاصل والمنبع وان جميع اللغات كانت قنوات وروافد منها؛ تقول المؤلفة في كتابها: إن السبب الاول هو سعة اللغة العربية وغناها وضيق اللغات الاخرى وفقرها النسبي، فاللغة اللاتينية بها سبعمائة جذر لغوي فقط، والسكسونية ألفا جذر؛ بينما العربية بها ستة عشر الف جذر لغوي، يضاف الى هذه السعة سعة اخرى في التفعيل tall والاشتقاق والتركيب، ففى الانجليزية مثلا لفظ بمعنى طويل، والتشابه بين الكلمتين في النطق واضح ولكنا نجد ان اللفظة العربية تخرج منها مشتقات وتراكيب بلا عدد (طال يطول وطائل وطائلة وطويل وطويلة وذو الطول ومستطيل ).. إلخ

(good) بينما اللفظ الانجليزي لا يخرج منه شيء، ونفس الملاحظة في لفظة أخرى مثل بالانجليزية وجيد بالعربية وكلاهما متشابه في النطق، ولكنا نجد كلمة جيد يخرج منها الجود والجودة والاجادة ويجيد ويجود وجواد وجياد.. إلخ

ولا نجد لفظ يخرج منه شيء، (good) ثم نجد في العربية اللفظة الواحدة تعطى أكثر من معنى بمجرد تلوين الوزن، فمثلا قاتل وقتيل وفيض وفيضان ورحيم ورحمن ورضى ورضوان وعنف وعنفوان، اختلافات في المعنى أحيانا تصل إلى العكس كما في قاتل وقتيل وهذا التلوين فى الإيقاع الوزنى غير معروف في اللغات الأخرى، وإذا احتاج الأمر لا يجد الانجليزي بدا من استخدام كلمتين مثل، للتعبير عن الجيد والأجود (good & very good)، وميزة أخرى ينفرد بها الحرف العربي هي أن الحرف العربي بذاته له رمزية ودلالة ومعنى، فحرف الحاء مثلا نراه يرمز للحدة والسخونة، مثل حمى وحرارة وحر وحب وحريق وحقد وحميم وحنظل وحريف وحرام وحرير وحنان وحكة وحاد وحق، بينما نجد حرفا آخر مثل الخاء يرمز إلى كل ماهو كريه وسيىء ومنفر ويدخل فى كلمات مثل خوف وخزى وخجل وخيانة وخلاعة وخذلان وخنزير وخنفس وخرقة وخراء وخلط وخبط وخرف وخسة وخسيس وخم وخلع وخواء، ونرى الطفل إذا لمس النار قال أخ ونرى الكبير إذا اكتشف انه نسى أمرا هاما يقول أخ؛ فالنسيان أمر سيىء، وهذه الرمزية الخاصة بالحرف والتي تجعله بمفرده ذا معنى، هي خاصة ينفرد بها الحرف العربي، ولذا نجد سور القرآن الكريم أحياناً تبدأ بحرف واحد مثل:

(ص ... أو ق ... أو ن) وكأنما ذلك الحرف بذاته يعني شيئا ـ انتهى المقال وهو في الحقيقة مقال يوضح فيه العالم مصطفى محمود، حالنا اليوم على أنه إذا كان عالمنا كله أصبح صناعة أجنبية، والجزء الهزيل الذي تبقى لنا وهو لغتنا العربية جعلنا منها وسيلة خلاف وشقاق وتكفير، كل واحد يحاول أن يخرج الآخر من الملة لأنه يقول كلاما مختلفا، فإلى أي حضيض وصلنا؟! قلوبنا أصبحت شتى! وبأسنا بيننا شديد! ومجموعنا لاشي!.

نقلاً عن جريدة الرياض

حول الموقع

سام برس