بقلم/ أحمد عبدالمعطى حجازى
أكتب هذه المقالة متوجها بها للسيدات والسادة نوابنا المحترمين فى مجلسى النواب والشيوخ، راجيا أن ينظروا فى أوضاعنا الثقافية الراهنة ويتعرفوا على ما يجرى فيها من نشاط، وما تواجهه من مشكلات، وما يتحقق فيها وما لا يتحقق، وما يجب أن نقوم به جميعا، المثقفون، ومؤسسات الدولة، والمواطنون عامة لإنهاض الثقافة المصرية، وحل مشكلاتها، ودعم نشاطها، وتمكينها من أن تؤدى رسالتها التى لانستطيع بدونها أن نحيا، أو أن نتقدم ونتغلب على ما نواجهه من مشكلات.

والاهتمام بالثقافة ليس مطلبا جديدا، لأن الثقافة أساس فى بناء الإنسان وبناء المواطن وبناء الوطن كما نعرف من تاريخنا الذى أدت فيه الثقافة أعظم الأدوار. وهذا ما انتبهت له دساتيرنا التى صدرت خلال العقود الماضية. فى مشروع دستور 1954 تنص المادة الثامنة والثلاثون على أن «الخدمة الثقافية» أساس فى المستوى اللائق الذى تيسره الدولة للمواطنين مثلها مثل الغذاء، والمسكن، والخدمة الصحية.

وفى الدستور الصادر فى مارس عام 1964 تقول هذه المادة ذاتها «التعليم حق للمصريين جميعا تكفله الدولة بإنشاء مختلف أنواع المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والتربوية والتوسع فيها. وتهتم الدولة خاصة بنمو الشباب البدنى والعقلى والخلقى».

ونحن ننظر الآن فى أوضاعنا الثقافية فنراها غير مرضية، وغير مطمئنة. ونحن جميعا مسئولون. لأن الثقافة ليست ملكية فردية، وإنما هى ملكية الأمة كلها، حين تزدهر يكون الفضل للجميع، وحين تذبل يكون الذنب ذنب الجميع. وهذا هو ما حدث فى العقود الأخيرة التى ظلت فيها ثقافتنا تتراجع يوما بعد يوم حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، فى الوقت الذى تشتد فيه حاجتنا لها يوما بعد يوم.

نعم نحن الآن فى أشد الحاجة للعقل، ونحن الآن فى أشد الحاجة للخيال، وإلا فكيف نفهم حاضرنا؟ وكيف نتخيل مستقبلنا؟ نحن بالعلم نعرف الطبيعة ونكشف عن كنوزها، وبالفن نعرف أنفسنا ونعبر عن عواطفنا ومشاعرنا ونتواصل مع الآخرين.

ونحن نرى كيف تضاعفت أعدادنا وظلت ثروتنا كما هى. ولا تفسير لهذا الوضع المختل إلا غياب الثقافة من حيث هى عقل وعلم وخيال وعاطفة وتفكير وتدبير. وإلا فهناك ثقافة أخرى تشل العقل وتخفى الحقائق وتطلق العنان للأوهام والخرافات.

نحن إذن فى أشد الحاجة لثقافة عقلانية وإنسانية نبنيها ونطهر بها عقولنا وأفئدتنا من ثقافة الجهل والخرافة. وهذه عبارة تبدو فى نظر البعض غريبة، إذ كيف يكون الجهل ثقافة؟ والجواب ليس بعيدا. وما علينا إلا أن نرجع للوراء بضعة عشر عاما لننظر فى الإحصائية التى نشرتها دار الكتب المصرية وذكرت فيها أن الكتب التى أصدرها الدجالون المتاجرون بالخرافة والشعوذة بلغ عددها فى عام 1994 ثلاثة آلاف كتاب.

هذه الكتب لم تكن حكايات مسلية، تقرأ للتسلية، وإنما كانت ثقافة كما قلت. كانت سياسة تمكن أصحابها من الفوز بعدد من المقاعد فى البرلمان. وكانت فتاوى تحذر من وجود المرأة إلى جانب الرجل فى المكاتب الحكومية. وكانت طبا روحانيا! يحصن الناس ضد الشياطين، ويخرج الجن من أجساد النساء.

وكانت مجتمعا آخر له لغته وأفكاره ومذاهبه، وله أزياؤه. بعض هذه الثقافة من مخلفات الماضى المندثر. وأنا لا أفشى هنا سرا، ولا أتحدث عما لا يعرفه القراء، وإنما أذكر بما هو معروف وشائع، ولست أشك فى أن الذين يشتغلون بالخرافة ويصدقونها ويحولونها إلى ثقافة عامة لايزالون أكثر من الذين يسفهونها ويكذبونها ويدافعون عن العقل والعلم وعن الطرق الصحيحة للمعرفة الصحيحة.

فإذا كانت الحرب التى أعلنت على العقل وثقافته فى تلك السنوات التى مضت قد خفت حدتها بعض الشىء فى السنوات الأخيرة، فآثارها المدمرة وثمارها المرة ستظل تطاردنا إلى أن ننجح فى القضاء على جرثومة الجهل والخرافة ، ونعيد بناء ما دمر من حصون العقل والحرية. وفى هذا نحتاج لكل طاقتنا وكل مؤساتنا، وفى مقدمتها البرلمان.

نريد أن نعرف ما يحصله أبناؤنا فى المدارس بمراحلها الثلاث، وماهو المستوى المطلوب منهم أن يبلغوه فى نهاية كل مرحلة، ليكونوا مؤهلين بعد المرحلة الأخيرة للالتحاق بالجامعة والمعاهد العليا، أو ليكتفوا بما حصلوه ليمارسوا به حياتهم العملية، وقد تزودوا بما يكفيهم فيها. وفى الماضى كان التلميذ الحاصل على الشهادة الابتدائية يعرف من لغته العربية ومن الانجليزية أيضا ما يمكنه من الحصول على وظيفة مناسبة، وما يؤهله لمواصلة القراءة والدراسة اعتمادا على نفسه حتى يصل إلى ما وصل إليه زملاؤه الذين واصلوا دراستهم فى المرحلة الثانوية، وقد يتفوق عليهم إذا كانت له الموهبة التى استطاع بها الأستاذ العقاد أن يصل إلى ما وصل إليه.

وقبل العقاد لم يتح لشاعر النيل حافظ إبراهيم إلا ما تعلمه فى المدرسة الابتدائية، وما حصله بعد ذلك بالقراءة الحرة، ومع هذا استطاع أن يعمل بالمحاماة قبل أن يلتحق بالمدرسة الحربية التى لم تكن تشترط للالتحاق بها أكثر من الشهادة الابتدائية. وأهم من هذا أن ثقافته الأولى التى حصلها فى المدرسة الابتدائية أهلته لأن يكتشف موهبته وينميها ويتقدم بها الصفوف ليقف إلى جانب أمير الشعراء ويصبح شاعر النيل.

ولاشك فى أن ما حصله حافظ والعقاد هو ما حصله الآلاف الذين تعلموا فى المدارس الابتدائية، فى تلك الأيام التى مضت، لكن الموهبة هى التى مكنتهما من الوصول إلى ما لم يصل إليه سواهم. هل نجد الآن فى الحاصلين على الشهادة الابتدائية أو حتى الثانوية من يعرف لغته العربية أو غيرها من المواد التى درسها كما عرفها السابقون؟

لن أجيب. لأن الاجابة عن سؤال كهذا تحتاج لدراسة موثقة لا تتاح إلا للجهات المختصة. لكن الانطباع الذى يصلنى مما أراه وأسمعه وأقرأه لايسمح لى بالتفاؤل، فالأخطاء تلاحقنا حتى فى الأوساط التى تشتغل بالكتابة والثقافة والتعليم. ولهذا أطرح السؤال، وأتمنى أن ينوب عنا نوابنا المحترمون فى طرحه معنا وفى الوصول إلى إجابة تكفينا وتشفينا!

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس