بقلم/ وفاء صندى
فى نهاية الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية، أحدثت النتائج الاخيرة مفاجأة كبيرة بخلق ثلاث كتل سياسية وبترتيب غير متوقع على الإطلاق.
جاء تحالف اليسار، المجتمع تحت راية الجبهة الشعبية الجديدة، فى المركز الأول بـ 182 مقعدا، لكنه يبقى بعيدا عن الأغلبية المطلقة التى تسمح له بالوصول إلى السلطة دون تحديات او عراقيل. اما التجمع الوطنى (اليمين المتطرف)، الذى كان يأمل فى الحكم وأكد أنه سيحصل على الأغلبية المطلقة، فلم تمنحه أصوات الناخبين سوى 143 مقعدا. بالنسبة لمعسكر ماكرون فقد أظهر قدرته على الصمود بحصوله على 168 مقعدا، لكنه سجل خسارة نحو 100 ناخب مقارنة بانتخابات 2022. يبدو من هذه النتائج غير المتوقعة أن الفرنسيين، الذين عادوا مرة أخرى بكثافة إلى صناديق الاقتراع فى الجولة الثانية، متخوفون من وصول اليمين المتطرف للسلطة. تصويتهم لصالح اليسار ربما يكون لمنع اليمين المتطرف من الوصول للحكم، ولكنه أيضا تصويت عقابى ضد تحالف ماكرون.
أيا كانت دوافع الناخبين، لا يستطيع أى من التشكيلات السياسية الحالية الوصول بمفردها إلى الأغلبية المطلقة البالغة 289 نائبا.
هذه النتيجة تدفع فرنسا إلى سيناريو غير مسبوق فى ظل برلمان معلق. هذا الأخير يحدث فى حكومة النظام البرلمانى، عندما لا يحقق أى من الأحزاب الرئيسية أو كتلة الأحزاب المتحالفة أغلبية مطلقة فى المقاعد تتيح لأى منهم تشكيل الحكومة منفردا دون الحاجة إلى الدخول فى تحالفات. فى الحالة الفرنسية، لم يحدث أن انتخبت البلاد، طوال تاريخها، برلمانا دون حزب مهيمن. لكن التجاذبات السياسية التى عاشتها فرنسا مؤخرا، والانقسامات بخصوص سياسات الضرائب والهجرة والشرق الأوسط، جعل إجماع الأحزاب على موقف معين او الاتفاق على مواقف الحكومة والتشريعات أمرا صعبا. الامر الذى انعكس لاحقا على حياة المواطنين، وبالتالى على اختياراتهم.
بعد الكشف عن نتائج الانتخابات، أعلن رئيس الوزراء، جابرييل أتال، أنه سيقدم استقالته، لكن الرئيس الفرنسى رفض طلب الاستقالة، طالبا من المسئول الحكومى البقاء فى منصبه وتسيير الأمور حاليا من أجل استقرار البلاد، خاصة ان فرنسا على بعد ثلاثة أسابيع من انطلاق الألعاب الأوليمبية فى باريس. كما هو معلوم، القوانين الفرنسية لا تلزم الرئيس بإعادة تشكيل حكومة جديدة فور إعلان نتائج الانتخابات. ولا يوجد جدول زمنى يفرض مطالبة الحكومة الحالية بالاستقالة ولا تعيين حكومة جديدة. من الناحية النظرية، يتمتع رئيس الجمهورية بصلاحية تعيين من يريد فى رئاسة الحكومة، لكن المنطق المؤسسى لا يسمح له بتجاوز رأى أغلبية النواب. لذلك، لا يستطيع الرئيس الفرنسى ان يتجاهل تماما الوضع السياسى الجديد الناتج عن الانتخابات، خاصة، أن حكومة الأقلية فى الجمعية الوطنية معرضة لخطر تقديم اقتراح بسحب الثقة، والذى يمكن تقديمه إلى الجلسة الأولى للجمعية الوطنية المقبلة، المقرر عقدها فى 18 يوليو، بموجب المادة 12 من الدستور. ومن المرجح أن يتم التصويت على هذا الاقتراح، لأن المعسكر الرئاسى يضم 168 مقعدا فقط من أصل 577، وسيؤدى إلى السقوط الفورى لحكومة أتال.
لتفادى هذا السيناريو، من المفترض أن يختار ماكرون، خلال الأسابيع القليلة المقبلة، مرشحا يرجح أن ينال تأييد أغلبية النواب، أو على الأقل ألا يثير رفض أغلبيتهم. لتسريع وتيرة الاختيار، وربما كنوع من الضغط، أشار ممثلو الجبهة الشعبية الجديدة إلى أنهم مستعدون لمنح ماكرون اسم رئيس الوزراء الجديد، وكذلك تشكيلة الحكومة الجديدة. فى المقابل، سلط المعسكر الرئاسى الضوء على الحاجة إلى ائتلاف كتلة مركزية كبيرة لتمرير القوانين فى الجمعية. فى الواقع، وأخذا فى الاعتبار الظرفية السياسية التى تمر بها فرنسا، من المتوقع ان يستغرق تشكيل حكومة جديدة، تعكس نتائج الانتخابات التشريعية، وقتا طويلا، للتوصل الى توافق بين عدة قوى سياسية حول مرشح لرئاسة الوزراء وبرنامج سياسى موحد. فى إطار البحث عن توافقات، قد يسعى ماكرون إلى اتفاق مع اليسار المعتدل لتشكيل حكومة مشتركة، لكن مثل هذه المفاوضات، إن حدثت فستكون صعبة جدا. أما الحديث عن ائتلاف ذى توجهات يسارية فيبدو مستبعدا، أيضا، كون فرنسا ليست معتادة على هذا النوع من بناء التحالفات فى مرحلة ما بعد الانتخابات.
الوضع السياسى الراهن فى فرنسا مهدد بالاتجاه نحو الانسداد. واذا لم تستطع الكتل السياسية التوصل الى اتفاق مرض للجميع، فستدخل فرنسا فى منطقة مجهولة وغير مسبوقة، يصعب معها إعادة الانتخابات، إذ ينص الدستور على أن الرئيس لا يمكنه الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية جديدة قبل 12 شهرا.
نقلاً عن الاهرام