بقلم /د. مصطفى يوسف اللداوي

اعتادت الحركة الصهيونية ومن والاها، ومن خافها وخشي منها، وارتبط بها وارتهن لها، والمسيحيون الانجيليون ومن آمن بهم واتبع أهواءهم وضل مثلهم، على إدانة كل من يشكك في المحرقة اليهودية، أو يهزأ بها ولا يستعظم شأنها ويهول أمرها، وتتهم من ينكرها أو يستخف بها بمعاداة السامية والإساءة إلى اليهودية ديانةً وشعباً، وتطالبهم بالاعتذار عن مواقفهم والتراجع عنها، وإلا فإنهم يتعرضون لسخطها، وينزل بهم غضبها، فيقالون ويطردون إن كانوا مسؤولين أو موظفين، ويحاكمون ويعاقبون إن كانوا كتاباً أو صحفيين، أو إعلاميين وأصحاب رأي، ويشنون عليهم حملات تشويةٍ وإساءة، تفض الناس من حولهم، وتنفر القراء والمتابعين منهم، وتجعل منهم في نظر المجتمع مارقين مندسين، فاسقين ضالين، يجب عزلهم ومعاقبتهم.

فاسكو غارغالو فنانٌ برتغالي، لا علاقة له بالعرب والمسلمين، ولا بالمقاومين والفلسطينيين، ولا يتواصل مع أيٍ منهم أو يشارك في أنشطتهم، ولا يفقه لغتهم أو يعرف هويتهم، ولا يميل لدينهم أو يفضل عقيدتهم، لكنه فنانٌ رسَّامٌ مرهف الحس رقيق المشاعر، جياش العاطفة شفاف النفس، سريع العبرة شديد الزفرة، صادق اللهجة نقي السريرة، يحكم على الأشياء بحقيقتها، ويفصل في القضايا بموجب عدالتها، ويناصر الحق ويجافي الظلم، ويحارب العنصرية ويكره العدوان.

ساء فاسكو غارغالو ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ظلمٍ وعدوانٍ، واحتلالٍ وحرمانٍ، في ظل الصمت الدولي المريب، وقد اغتصبت أرضه وطرد من دياره، وقتل أبناؤه وانتهكت مقدساته، وتُرك وحده يقاوم، وتخلى عنه العالم وهو يعاني، فأعلن تأييده له، ووصف قضيته بأنها قضية حقٍ وتمثل الضمير الإنساني، ودعا العالم الحر إلى نصرة الفلسطينيين والوقوف معهم، وتطبيق القوانين الدولية التي تضمن حقهم وتعيدهم إلى أرضهم، وتمكنهم من إقامة دولتهم وسلطتهم في وطنهم.

غضب غارغالو كثيراً من الخطاب الغربي والأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، ورأى أنه خطابٌ منحازٌ وغير منصفٍ، ووصفه بأنه يقف مع الجلاد ويتجاهل معاناة الضحية، واستفزته أكثر مواقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي تحالف مع الرئيس الأمريكي ترامب ضد الشعب الفلسطيني، الذي وصفه بالشعب الطيب المسكين، فقام برسم صورةٍ كاريكاتورية، في مجلة "سابادو" البرتغالية التي يعمل فيها رساماً.

صوَّرَ غارغالو نتنياهو وهو يزج بتابوتٍ يلفه العلم الفلسطيني، إلى أتون فرنٍ تتطاير ألسنة اللهب منه، وتتقد النار بقوة فيه، وهي تلتهم التابوت بمات حوى، في دلالةٍ صريحةٍ على حرق الأرض الفلسطينية وأهلها، وكأنه يذكر بالمحرقة التاريخية التي تعرض لها اليهود في أوروبا، ويقول للإسرائيليين إن كنتم قد ظُلمتم واضطهدتم، وتعرضتم إلى هذه المحرقة المهولة والجريمة الكبيرة، فإنكم اليوم تقومون بالمثل، وترتكبون ما هو أشد وأفظع، إذ تحرقون الشعب الفلسطيني كله عندما تعتدون عليه، وتدمرون مستقبله وتصادرون أرضه، وتحرمونه من العيش الكريم وتقرير مصيره في وطنه وعلى أرضه.

غضب الإسرائيليون غضباً شديداً، وثارت ثائرة الحركة الصهيونية في كل مكانٍ، فصبوا جام غضبهم على الرسام البرتغالي، وشتموه ولعنوه، ونعتوه بأبشع النعوت واتهموه بأخس الاتهامات، وشهَّروا به وفضحوه، وتطاولوا عليه وهددوه، وطالبوا رئيس تحرير الصحيفة البرتغالية التي يعمل فيها بطرده ومنعه من العمل في صحيفته، وحرمانه من العمل في أي صحيفةٍ أخرى، كونه أصر على موقفه، ورفض الاعتذار عن تصرفه، وعارض سحب الصورة أو وقف نشرها، فاستحق بذلك غضب الحركة الصهيونية ودهاقنتها الموالين لها والعاملين فيها، فسارعوا إلى تبني المواقف الصهيونية، وضغطوا على إدارة الصحيفة ورئيس تحريرها، ليطرده من صفوف العاملين فيها، ويحرمه من فرصة التعبير عن رأيه على صفحاتها.

لم تكتف الحركة الصهيونية بحملتها التحريضية ضد غارغالو، بل قامت وزارة الخارجية الإسرائيلية بالاحتجاج الرسمي لدى الحكومة البرتغالية، وطالبتها بالتشدد في تطبيق القوانين المعادية للسامية، وتغليظ العقوبات بحق المخالفين لها، خاصةً أولئك الذين يصرون على مواقفهم، ويتمسكون بها، ويرفضون الاعتذار والتراجع عنها، تماماً كما فعل فاسكو غارغالو، الذي رأى أن التدخل الإسرائيلي في شؤون بلاده، سواء على المستوى الرسمي أو من خلال اللوبي الصهيوني العامل في البرتغال، إنما هو اعتداء سافرٌ على سيادة بلاده، وعلى الحريات الشخصية التي يضمنها الدستور وتحفظها مواثيق بلاده.

لم تتوقف رسومات فاسكو غارغالو المؤيدة للقضية الفلسطينية، والمعارضة للسياسات الأمريكية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، رغم المحاولات الصهيونية الحثيثة لثنيه عن مواقفه، والتأثير على قناعاته، ومنعه من التعبير عنها عبر صفحات مجلته، إلا أنه ما زال يصر على مواقفه كأكثر أبناء الشعب الفلسطيني ولاءً لقضيتهم، وإيماناً بها، وتضحيةً في سبيلها، وكأنه في زمن صفقة القرن والاستخذاء العربي المهين، ومرحلة الهرولة والتطبيع المشينة، يلطم الأنظمة العربية التي خضعت وخنعت، وسلمت واعترفت واستسلمت، وتخلت عن الشعب الفلسطيني ونأت بنفسها عنها، وتركته وحيداً وهو المظلوم في موجهة إسرائيل وهي المعتدية الظالمة.

سلمت يداك يا غارغالو وسلمت ريشتك، وسما فكرك وعلت أفكارك، ودام رسمك وانتشر فنك، وكثر أمثالك وتضاعف أتباعك، ونحن معك نؤيدك في رأيك، ونساندك في فكرك، ونقف معك في مواجهة الحملة الصهيونية ضدك، نتضامن معك، ونتظاهر من أجلك، وندعو أحرار العالم جميعاً لمناصرتك ومنع التغول عليك والتفرد بك، والاعتداء على حريتك، وحرمانك من عملك ومصدر رزقك، تحياتنا لك باسم كل الفلسطينيين وكل أحرار العالم ومقاوميه.

بيروت

حول الموقع

سام برس