بقلم/ مصطفى الفقي
اختلفت دائمًا مع بعض أصدقائى الأعزاء فى توصيف الدور الإقليمى لمصر وأهميته وانقسمت وجهات النظر بيننا، ففريق يرى أن نظرية الدور المصرى عبر التاريخ نظرية موثقة وراسخة وأن مصر بمجالها الحيوى وتراثها التاريخى صاحبة دورٍ متفرد فى الدوائر العربية والإفريقية والبحر متوسطية بل الشرق أوسطية عمومًا، ومصر ليست دولة محدودة التأثير بل هى دولة تملك دورًا مؤثرًا حتى فى أقسى الظروف التى مرت بها والأزمات التى واجهتها لأن مصر وريثة حضارات وحاضنة ثقافات كما أنها تملك أكبر رصيدٍ للقوى الناعمة فى المنطقة بالأزهر والكنيسة، بالأهرامات والآثار الخالدة، وبالحشد الضخم من المثقفين، والكوكبة المتألقة من العلماء والمفكرين، فضلاً عن ارتباطها بالنيل الذى اقترن باسمها عبر آلاف السنين.

لذلك فإن لمصر دائمًا فى كل قضية رأيا وفى كل أزمة موقفا لأنها ليست دولة هامشية ولن تكون كذلك أبدًا بمنطق عبقرية الزمان والمكان كما عبّر عنها مؤرخ الجغرافيا الراحل جمال حمدان، قد يهدأ دورها أحيانًا أو يخفت لبعض الوقت ولكنه لا يختفى أبدًا. ومازلت أتذكر من عملى فى مؤسسة الرئاسة أنه يوم أن غزا صدام حسين الكويت اتصل بى سفير الهند فى القاهرة وقال لى إن بلاده سوف تحدد موقفها من ذلك الحدث الكبير بعد أن تتعرف على الموقف المصرى للاسترشاد به والاستئناس بمفرداته، وذلك يوضح حجم مصر الإقليمى ومكانتها الدولية، بينما تمسك فريق من الأصدقاء على الجانب الآخر بأن مصر القوية داخليًا حتى ولو كانت غائبة الدور إقليميًا ودوليًا فإن ذلك أفضل لها من الانتشار السياسى ومحاولة لعب دور خارج حدودها.

وأظن أن القائلين بهذا الرأى إنما يضعون فى خلفياتهم دائمًا مصر الناصرية وخروج الجيش المصرى فى ستينيات القرن الماضى إلى خارج الحدود لنصرة ثورة الشعب اليمنى على حكامه، وهو أمرٌ أسهم فى إضعاف مصر بل يراه بعض العسكريين واحدًا من العوامل التى أسهمت فى وقوع نكسة 1967، ويضيف أصحاب هذا الرأى أن المسألة أكبر من ذلك وأعمق إذ أن للدور تكاليف سياسية ومادية لايمكن تجاهلها ولذا قلت لهم إن مصر قامت تاريخيًا على معادلة ترى أن مصر تبيع سياسة وتشترى اقتصادًا وهكذا كان دورها وتلك كانت دائمًا معادلة ثابتة فى تاريخها الحديث.

ومازلت أتذكر الرحلات السنوية للرئيس الراحل مبارك للولايات المتحدة الأمريكية حيث تشير الأخبار دومًا إلى أن الزيارة تهدف إلى حلحلة القضية الفلسطينية ورفع المعاناة عن أبناء غزة ولكن ذلك يكون غالبًا هو القشرة الخارجية التى تغطى مجموعة من المطالب العسكرية والاقتصادية للدولة المصرية، وكأن مصر تقايض بالدور السياسى الإقليمى عددًا من المصالح المباشرة الخاصة بالحكومة المصرية، ولذلك فإننى أظن أن توظيف الدور الإقليمى فى خدمة الأهداف المحلية والتطلعات الداخلية هو أمر برعت فيه الدبلوماسية المصرية فى العقود الأخيرة إلى أن عاد التوازن لعلاقاتها الخارجية وأصبحت تتعامل بمثلية كاملة مع القوى المختلفة.

وفى ظنى أن الدور الإقليمى لمصر يتمدد وفقًا لقوتها العسكرية وحضور قواها الناعمة فى كل اتجاه وأن ذلك الدور يتراجع بانكماش الأدوات التى آلت للدولة المصرية عبر أحقاب التاريخ المختلفة، ولذلك فإن الدور المصرى إقليميًا قد تراجع بشكل نسبى عندما ضعفت صادرات القوى الناعمة المصرية إلى الدول الشقيقة والصديقة، لقد كان التعليم والثقافة والأدب والفن هى أدوات مصر التى تتسلل إلى وجدان من ارتبطوا بالفيلم السينمائى المصرى وأدمنوا الطرب من إذاعات القاهرة ثم شاشة تليفزيونها بعد ذلك، فالقوى الناعمة التقليدية كانت ولاتزال وسوف تظل ـ مع تغييرات نسبية بسبب التقدم التكنولوجى مصدر الإشعاع المصرى والإلهام القادم من بلادنا ليصل إلى غيرنا، فالذى يزور ماليزيا مثلاً ويريد أن يتحدث عن مصر يبدأ حديثه عن الأزهر الشريف، والذى يزور المغرب لابد أن يحدث الأجيال القديمة بأسلوب إسماعيل ياسين ويخاطب الأجيال الجديدة بخفة ظل عادل إمام، وأتذكر أننى حضرت مقابلة لوزير الخارجية المصرى مع الرئيس بوتفليقة فى مطلع هذا القرن وانصرف حديث الرئيس الجزائرى إلى مسلسل أم كلثوم والدور الذى تألقت فيه الفنانة صابرين آنذاك، إن الدور الإقليمى لمصر كما قلت وأقول دائمًا شمسٌ لا تغيب بشرط أن يقوم على دعائم ثابتة ورؤية عصرية وأساليب حديثة.

ومازلت أتذكر مناقشاتى مع صديقين عزيزين من المفكرين السياسيين الكبار هما الدكتور عبد المنعم سعيد والدكتور أسامة الغزالى حرب حول الدور الإقليمى لمصر وقد كانا يختلفان معى غالبًا لأن المخاوف تقمصت المصريين من أن الاهتمام بالدور الإقليمى يعنى خروج قواتنا المسلحة خارج حدودها فى غير ما يتصل بالأمن القومى المصرى ولايزال الجدال مستمرًا، وأذكر أن الصديق العزيز السفير نبيل فهمى وزير الخارجية السابق قد اتصل بى ذات يوم وقال لي: ألم تقرأ المكتوب فى صحيفة البديل التى كان يرأس تحريرها الزميل الراحل محمد السيد سعيد، وأضاف السفير نبيل فهمى يومها أن عنوان الصفحة الأولى يقول على لسانى إن مصر أصبحت لاتهتم بالدور الإقليمى وكان ذلك فى نهايات عصر الرئيس الراحل مبارك، وقال لى السفير الوزير مداعبًا:

توقع عتابًا شديدًا من مؤسسة الرئاسة خلال الساعات القليلة القادمة، وهو ما حدث يومها بالفعل، وها أنذا أقرر اليوم أن الدور الإقليمى يعبر عن قوة مصر الخارجية ولعلنا نشعر بالحاجة الشديدة إليه الآن فى الأزمة الحالية لسد النهضة حيث انصرف عنا كثير من الأصدقاء وعددٌ من الأشقاء!

* نقلا عن "الأهرام"

حول الموقع

سام برس