بقلم/ احمد الشاوش
في ريعان الشباب عشنا حياتنا المتواضعة والمتدفقة بالحب والعطاء والسعادة وكان الامل بلاحدود والطموح يعانق السماء فالمدارس والمعاهد والجامعات الحكومية ممتلئة بالطلاب والطالبات كخلية نحل والدراسة مجانية ومخرجات التعليم في كافة مجالات الحياة.

كانت فرص العمل متوفرة والحركة الاقتصادية نشطة والاسعار رخيصة والمرتبات والحوافز تُصرف بإنتظام وتحويلات المغتربين كبيرة تدعم البنك المركزي وسعر الدولار بـ 4,5 ريال وسعر الريال السعودي بريال وربع يمني ، وسعر الكيلو الموز الامريكي بثلاثة ريال والكيلو البرتقال اللبناني ابوسرة بخمسة ريال ، والشكلاته الماكنوتوش البريطاني الكبير بـ 15 ريال والمواد الغذائية رخيصة وفي متناول الناس ، والغني يعطف على الفقير والميسور يساعد جاره ولا تجد فارق بين الغني والفقير الا في الشيء البسيط..

كان شارع علي عبدالمغني بصنعاء عنواناً للمعارض الانيقة التي تبيع الملابس والمنتجات الانجليزية والفرنسية والايطالية قبل أن تدخل الصين وتايوان على خط التجارة وقبل ان يحتال تجار اليمن على المستهلك في زمن حماية المستهلك ويستوردون ملابس مثل مناديل الكلينكس وصنادل يمشي بها المستهلك مدة عشرة ايام وجزمات تتمزق خلال الشهر!! .

كنا نشتري القميص الفرنسي و البدلة الانجليزية أو الفنله الايطالي وتحتفظ بجودتها سنوات دون أن يتغير لونها او يقع لها لوقان وشد عضلي او تمتط مثل الشلك الامريكي لانها كانت من اجود انواع القطن وأعرق المصانع التي كانت تحافظ على الثقة والسمعة .. حتى الجزمات والصنادل الجلدية كان لها جاذبيتها وقوتها ومنها التشيكي..

كان هناك معرض "الفصول الاربعة" الشهير أمام متجر غزة ، لصاحبه الرجل الوديع مقبل الفقية واخيه الانيق عبدالرقيب ، كان أحد معالم شارع عبدالمغني في بيع الملبوسات والماركات العالمية بأسعار معقولة .

كان هناك عبير الزهور والخرباش ومحل محمد علي سيف الخامري وكان هناك الشركة الايطالية لبيع سيارات فوكس واجن ومعرض القاسم لساعات سيكو ومستودع الشرق الاوسط للالكترونيات لصاحبه احمد عبدالله الدالي وفي نهاية الركن المتجر العربي لبيع الادوات الرياضية مقابل للبريد اليوم ..وكان هناك المستودع اليمني وصيدلية انيقة وغيرها من المعارض وقبل ذلك معرض سيناء لمواد البناء والكهرباء وبقالة الظاهري وبيت سنهوب الذي بجواره اليوم حلويات العدني ، وكان هناك معرض غزة لمواد البناء وغسالة سيكو...

كانت منطقة"التحرير" جميلة وحديثة التخطيط ، لها نكهه خاصة ، وكان لـ " كافتيريا ومنتزه" الدالي "الزجاجي" ، الجميل والانيق وسط الحديقة سحر خاص وجاذبية عجيبة تجمع الادباء والشعراء والمثقفين والسياسيين والنُخب الحزبية وغيرهم..

كانت أغاني ام كلثوم وفريد الاطرش وعبد الحليم حافظ وفيروز والحان السنباطي ومحمد عبدالوهاب وبيرم تونسي تصدح وقصائد امير الشعراء احمد شوقي وأحمد رامي الرقيقة والمشاعر الحساسة هي الروح الفنية التي يرددها العمالقة والمبدعين ورئتهم التي يتنفس بها أولئك الصفوة في الزمن الجميل وقاطرة المستقبل المنشود.

كنت الاحظ كيف كان صفوة المجتمع اليمني في صنعاء من كل المشارب والتيارات الثقافية والفكرية والسياسية يتجمعون حول كل طاولة ويتناقشون ويستمعون الى عالم الفن ويتحدثون بإريحية واحياناً يستخدمون نظام التشفير من استراق السمع ..

كانت كفتيريا الدالي استثمار جيد وتجربة يمنية فريدة ونقلة نوعية في مجتمع ثائر ومتحرر خرج من قمقم الجهل والفقر والجوع والمرض يبحث عن الحياة والمستقبل المنشود ، وكانت الكافتيريا تقدم سندوتشات الجبنة الكرافت بأقراص الروتي التي مثل البسكويت والشاي الحليب في فنجان خزفي يضع على صحنه الجميل .. وصحون الجبن مع الجام والزبدة الذي لاتشبع من طعمه ولذته ..حتى كان للقرص الروتي مفتول العظلات والمعجون بالحليب والسمن والسكر طعم مثل العسل مع كأس من الشاي ، بينما اليوم كسيح والحوضة نفاذة.

والحقيقة ان شباب الزمن الجميل مكافح ومثابر ومجد وصابر وأقل امكانيات ، كان يجمع بين الدراسة والمذاكرة والوظيفة والرياضة ، بينما شباب اليوم يائس ويعاني من حالات نفسية وخوف من المستقبل ، لايريد دراسة وان درس لايذاكر وان نجح لايحصل على فرصة عمل ما جعله أسيراً للانزواء ومضغ القات والنوم أو الالتحاق مع هذا التيار الجارف او ذاك بعد أن تدهور التعليم وفسدت المناهج والاخلاق!!.

عشنا عصر البيكم الانجليزي وأشرطة الكاسيت ومسجلات نشلن وراديوهات فليبس والتلفون الثابت والتلفزيون الابيض والاسود وبطاريات البس واقلام الباركر والشفر حتى الالكترونيات كانت لها جمال وتقنية وجودة عالية مازال البعض محتفظاً بها الى هذه اللحظة كجزء من ذكريات التاريخ الجميل.

كان اليمنيون يذهبون الى المدارس في صنعاء وتعز وإب وغيرها بالزي المدرسي الرسمي ، بدون سيارات وبدون مرافقين أودراجات نارية وبدون مسدسات وآليات وجنابي ونقطع مسافات من التحرير الى مدرسة اللُقية والبعض الى مدرسة غمدان والايتام بالميدان وآخرين الى مدرسة الشعب في نقم وابن الامير في الزمر ومدرسة سيف بن ذي يزن وخالد بن الوليد ومدرسة الكويت وجامعة صنعاء القديمة والجديدة مسافة 5 كيلو والبعض يبكر من الروضة واما في الارياف فقد تصل المسافة الى عشرة كيلومترات من أجل التحصيل العلمي ، بينما اليوم الازمة السياسية دقدقت معنويات الجيل الحاضر ومستقبله .

كان المجتمع اليمني أكثر محافظة للقيم السامية ومكارم الاخلاق من صدق وامانه ووفاء وأيثار ونخوة وتكافل وتراحم والوقوف الى جانب المظلوم ، وكان اذا ما رأى الطالب الاستاذ ماشياً في طريق الحي توارى عن الانظار بعيداً من هيبة الاستاذ وهروباً من السؤال الطبيعي ماذا تفعل..ليش ماتذاكر؟.

كان الكاتب الكبير الاستاذ محمد المساح ، يعنون عموده اليومي في صحيفة الثورة " لحظة يازمن " وكنا نستغرب ليش ابن المساح في صراع مع الزمن ويومياً ماسك البريك لنكتشف ذكائه وفراسته ومعرفته بأن القادم أسوأ والمستقبل ضبابي في ظل طيور الجنة والجلابيب السوداء.

يجري قطار العمر بسرعة الصوت ونعد الساعات والايام والسنين ونتذكر الماضي الجميل بمعالمه واماكنه واركانه وزوايه ومحلاته وشوارعه وأسواقه العريقة وشخصياته وعمالقته في الادب والشعر والفن والاعلام والصحافة والسياسة والثقافة والفكر..

حتى مساجد صنعاء كان لها جمال ونورانية والصلاة فيها لها طعم ثاني في الجامع الكبير وباب النهرين وقبة المتوكل والمهدي والبكيرية وغيرها وكان للقاضي الرقيحي والقاضي احمد سلامة وحمود عباس المؤيد ، وخطباء الازهر الشريف وقع خاص في قلوب وعقول اليمنيين لخطابهم المعتدل..

كنا نبكر صباح يوم الجمعة من الساعة الحادية عشرة للصلاة في الجامع الكبير وقراءة القرآن الكريم وكلنا شوق للخطبة قال الله .. قال رسوله .. قال الصحابة .. بينما اليوم تغير كل شيء وصرنا نحضر الخمس الدقائق الاخيرة من صلاة الجمعة مثل لاعب كرة القدم الاحتياط الذي يدخلوه في الوقت الضائع !!؟.

أخيراً .. بصراحة .. شباب اليوم تائه ومحبط ومظلوم وبحاجة الى من ينتشله من الضياع وربنا يعينه على الحاضر والمستقبل الملغوم .. قال تعالى "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ " الرعد 11

حول الموقع

سام برس