سام برس/ تونس/ شمس الدين العوني
لعبة المرح الشعري زمن الفجيعة قولا بالكلمات تنحت طريقها نحو الجمال مثل مياه النهر..

الشعر بما هو سفر و شجن و تجوال باذخ عبرالدروب الشتى نشدانا للغناء الخافت و تقصدا لما تسعد به الذات و هي تتخلص من أدران الوقت..الحال و الأحوال..و الذهاب تجاه وردة في البعيد لم يعيها الانسان بسقوطه المدوي و تداعياته المريبة ..و الشعر بما هو حلم الطفل الذي شيبته الأمكنة و هو يشهد أساها..و الشعر بما هو رهافة العوالم المختزلة وهي تشهد عنفوان الضجيج و الهذيان و طغيان الكائن ..الشعر بما هو فكرة الحرية و البهاء و نعومة الأشياء و العناصر و التفاصيل و ألق الكائن و مثل كل ذلك مما يفتقده انسان أيامنا في هذه الأكوان.....

و الشعر بوصفه كل هذا و أكثر صار الملاذ و المتقصد حيث يحصي شاعر خساراته الجميلة ليمضي مأخوذا بدهشته و لا شيء غيرها فهي العزاء في وطن ينشد الحب و الأمل و الصباح الجديد ...

هي لعبة المرح الشعري زمن الفجيعة عبر القول بالكلمات تنحت طريقها نحو الجمال مثل مياه النهر و هي التي لم تكم من زمان عن نحت مجاريها في الصخر..هي الكلمات و ما أدراك ما الكلمات..
" سر الأسرار الكلمة "..."صلاة في محراب الكلمات" ..هكذا هي فكرة الكلمة عند الشاعر الذي نحن بصدده ..يرفع رايات الكلام و يئن مترنما بالشجن الدفين ..شاعرنا هذا المسافر بين الأرجاء متجولا و منشدا "سفر هي الكتابة .....هو الشعر...".

مناخات شعرية شتى بين الوجد و الحنين و الألم و الحلم و التوق الى ما هو بهي و جميل..كل ذلك في لون شعري عرف به شاعرنا ضمن تجربته التي انطلقت منذ الثمانينيات من القرن المنقضي في سياق جيل شعري شهد تحولات و تبدلات في البلاد التونسية و في العالم العربي و على الصعيد الدولي أثرت في عديد المجالات و الرؤى و الأفكار..

و الشاعر هنا يأخذنا في سفره الشعري هذا مفتتحا صفحاته بنص يفصح فيه و به عن رؤيته الشعرية مشيرا الى ما يلي "... الشعر اكتشاف متواصل للعالم لأنه لا ينحصر في وصف المكشوف و المعلن تشييدا للصورة الكلية و البناء الفني المتكامل ...و لا يتم ذلك الا بالبحث في اللغة عن أنماط بلاغية مغايرة للمجاز القديم...".

هكذا نمضي في هذا السفر مع عوالم شاعر آمن بالكتابة نهجا يصدر أعماله الشعرية و الأدبية رغم بؤس الأحوال و ظروفه الاجتماعية و عوائق و مكبلات النشر ..انها لوثة الشعر الجميلة في أزمنة الفراغ و الضياع و ما تعيشه الأوطان في محيطنا العربي من فجيعة و ذهول.
شاعرنا هنا هو صالح الطرابلسي ابن مدينة مرناق عرفناه في منتصف الثمانينيات مع مجموعة مميزة من شعراء تلك المرحلة لتتعددة اللقاءات الشعرية بين حي الزهور و قليبية و جهات تونسية أخرى في مراحل لاحقة..

الشاعر صالح الطرابلسي يهدينا هذه المرة عملا شعريا جديدا و هو الذي نعنيه هنا و قد مهره ب" طفل و قمر و غبار "..المجموعة الشعرية الثامنة بعد : قصائد من جمر و ماء (1997) ـ إنكيدو (2009) ـ للحب أن يصبح أنقى (2011) ـ جداريات لانتفاضات القصيد (2013) ـ ابنة الألق تعود (2014) ـ بلبل غنى (2015) ...و صدرت للشاعر مجموعة شعرية موجّهة للأطفال، فضلا عن عدد من القراءات في كتابات الكاتب جلال المخ.
" طفل و قمر و غبار " مجموعة شعرية صدرت عن دار الثقافية للطباعة والنشر في حجم متوسط في أكثر من مائة صفحة و من عناوين قصائدها نذكر: في البدء كانت – طفل يعربد في شوارع الذّات – نبضات روح متصدّعة – حكاية العنقاء – أحلام مذبوحة – زمن الرّيح – صرخة – أيقونة الكادحين – معزوفات الوردة ...

في هذا العمل الشعري يبدو الشاعر صالح الطرابلسي مأخوذا بشجن الأيام و الأمكنة غير أن الحلم الذي رافقه من طفولات عابرة كان الملاذ في هذا السفر حيث الشوارع تمنح ألوانها و أسرارها للشاعر الذي يلهو بالزمن في عبارات القصائد و هو لا يلوي على غير القول بالغناء الخافت و التفاصيل و الأمل ..و نقرأ في قصيدة بعنوان " طفل يعربد في شوارع الذات " :

الطفل الذي مازال ينبت في حدائق العمر أذكر أنّي كنت ألاعبه و معي شجن كبير .. كنّا نلهو بالزّمان كما شئنا ...ومن طين أحلامنا كنّا نصنع الآمال ...حماما مثقلا بالهديل !

ها هو الشاعر في ديوان المرحلة و الحيز المتخير من السيرة يتماهى مع حيرته التي رافقته منذ عقود و هو يتأمل لاهيا بالأحداث و تلويناتها محاولا قراءة ما يحف بالانسان و هو ينشد أحلامه .. ثمة حسرة و احساس بالضياع من قبل الشاعر صالح الطرابلسي الذي يبدو كغيره من الشعراء من أحفاد أبي القاسم الشابي على تلك الفكرة القائلة بالألم و المرارة كحالة واقع تتحول الى حالة شعرية رافضة و مبشرة بالأمل و الصباح الجديد .. و نقرأ في قصيدة الطرابلسي ضمن هذا الديوان " نبضات روح متصدعة " ما يلي :

بيني و الفراشة و شائج
قربى
هي تعشق الضوء و أنا
أكره في هذه الدنيا
هذا الضلام
في تلك العتمة هنالك
شمس
تشرق ببقايا ماض أسود
يركد في الظلمة
حذار...
حذار فأشعته
صدئة
هي الأرض...
منذ أسطورة الخطأ الأولى
شعوبا و قبائل
أنزلنا اليها
فكانت لنا موطنا
وكان بيننا عهد
أن نغرس في مرابعها ما ينفع الناس
و نزرع في كونها بذور حياة
أخنا الأمانة يا ترى
أم هكذا جبلنا على نقيضين
ولادة ثم فناء...

" طفل و قمر و غبار " ...قصائد اللوعة..لوعة الشاعر يستنهض الكامن في الانسان من خير و فرح و أمل و حلم ..قصائد الشجن العظيم من شاعر أرهقه ما آلت اليه الأحوال
فمضى لا يلوي على غير الكلمات جاعلا منها السفر و المسافر اليها ..غير أن السفر هذا لم ينس الشاعر نبض دواخله من عواطف ليمضي في معراجه الى مواطن العشق..
من قصائد الديوان نقرأ في نص " معراج الى مواطن المعشوقة " ما يلي :

ملتحفا بالهجيرة.. هو البحر بعينيك يستفز
أتعرى من دثاري و ألقي بنفسي
في تجاعيد موجة تغوص بي ...
نحو أعماقها لأرتشف
من ملكوت الرؤيا ضوع الأسفار الأولى للحب
موصد باب القصيدة فافتحيه
أيتها الكلمات و ادخلي قلبي ...
فهناك حدائق الود تتعطر بالأنداء
وهناك يساتين الورد أنضو شذاها
للعاشقين ...
و هناك دنيا من الأحلام كنت
أعد بها ما أنا فيه من سفر طويل ضد الموت.
في حبك كنا نستعذب العذابات
و على ظهورنا قد حملنا الصخرة
نعلم أن الصعود الى الشمس قدر الحالمين..."

القصائد عند الشاعر صالح الطرابلسي بمثابة الملجأ و السكن حيث السكينة بعيدا عن ضجيج المدن و العواصم الجريحة و الطافحة بفوضى العناصر و الأشياء ..هي البيت المكلل بالكلمات و جماله و بالحلم و عناوينه الشتى و بالرؤيا تنير الدرب و الأمكنة بالموسيقى هذه اللعبة الناعمة تهز الكيان لتصبح الذات أحلى و أبهى..هي الموسيقى التي تؤنس الشاعر تزيح عنه صمته المدوي في الارجاء..

" مالي سوى قصيدتي بيتا
أسكن فيه تلافيف روحي ...
أشكلها أحرفا تتماهى في الكلمات
يتماهى جسدي ...فيها شجونا
كي يصنع رؤيا تتماهى في المعنى
لأجدني انسانا آخر يتماهى في حبر الورقة
في البياض الصامت تنبت حياة أخرى ...
تنبت موسيقى تخرجني من
صمتي و من عدمي
و أجدني بين السطور أحلق
كلاما ينحت لي في الحياة
وجودا...".

" طفل و قمر و غبار " مجال شعري فيه طرق شتى عالجها الشاعر بفيض بين من النّوستالجيا مشيرا في عديد القصائد الى أكوان الطفولة و جمال الطبيعة و الأحاسيس و الوجدان حيث يترافق كل ذلك مع أحزان الإنسان و مآىسيه ..هو ديوان حيز من سيرة صالح الطرابلسي الشعرية فيه تلوينات الذات في صعودها و سقوطها في أملها و شجنها في سكونها و ترحالها في تفاصيلها و احوالها..
شيء من شجن كامن في خطى صالح الطرابلسي الشعرية على امتداد أكثر من ثلاثة عقود ..شجن و أمل كامنين كذلك في فسحة الشاعر تجاه القارئ منذ بداية التجربة و في مناخات مجمل اصدارات الشاعر..
ربما هي فلسفة الشاعر في هذا الدأب الشعري الذي تخيره منذ الديوان الأول ليمضي في نهجه الأدبي و الانساني هذا كما عن له اذ يقول في النص الرؤيا في مفتتح هذا الديوان الشعري " ...الشعر ثورة الفيلسوف على جفاف في ذاته ..." و كذلك "...هو تعبير عن تفاعلات و انفعالات تصدر عن رهافة الحس يصوغ الشاعر منها قيما انسانية دافقة بالحرية و الحياة و حب الجمال و الانسجام و نبذ كل ما يشةه انسانية الانسان ...".

نصوص هذه المجموعة الشعرية " طفل و قمر و غبار " كتبت في الفترة بين 2011 و 2020 أنهاها بقصيدة عنوانها " معزوفات الوردة " و كأنه يبشر بالعزف الجميل و الرائق على ايقاع وردة قادمة من أعماق النسيان..نسي الناس أحوال الورد في هذا العالم..الشاعر ينتقض بهدوء شعره و نعومة كلماته بوجه جحيم النسيان في عالم معطوب..
" هذه الوردة ...
في ملكوتها ترفرف الروح
فراشا يرسم في
جسد القصيدة ربيعا...".

" طفل و قمر و غبار و " ...زخم من الوجد و الشجن و الحلم و قصائد الذات الحالمة المستبدة بحبها للوردة تجاه خراب كوني مريع و تداعيات هي من قبيل لعبة الأقوياء و الضعفاء القديمة من قرون ..من بدأ الخليقة غير أن الشاعر الحالم بوطنه الجميل يتشبث في كل ذلك بالكلمات و موسيقاها نشدانا للحب و السلام و الغد الجديد...هذا عمل شعري جديد في تجربة الشاعر الأدبية المتواصلة و المفتوحة على الحلم و الكلام...أليس بالحلم و الكلمات يسعد الانسان...

حول الموقع

سام برس