بقلم/ د. مصطفى الفقى
تتمتع جميع الكائنات بثنائية خلقها الله معها لإحداث التوازن الذى يؤدى إلى توليفة صناعة الحياة، والجسد أمره مفهوم فنحن نقوم على تشريحه ومعرفة وظائف أعضائه حتى نعالج المرض حين نكشف العرض، بل ونتنبأ أحيانًا بقرب الرحيل، ولكن الروح مسألة معقدة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، وفى ظنى أن الروح بسموها ورفعة قدرها تتقمص الجسد لتصنع منه بشرًا سويًا أو حيوانًا يسخره الإنسان لخدمته أو قد يخرج عن طوعه ويمضى وفقًا لشريعة الغاب، وينسحب الأمر على الطيور والحشرات وهوام الأرض، لذلك كله نؤمن دائمًا بأن ثنائية الجسد والروح هى السر الوحيد للحياة على الكوكب الذى نعيش فوقه، دعنا نتأمل معًا بعض الملاحظات المرتبطة بقضية الوجود والخيط الرفيع بين الحياة والموت، ونوجز تلك الملاحظات فيما يلى:

أولًا: إن الروح كيان غير منظور لا نراه ولكن نشعر بتأثيره، ونظن أنه دائمًا ذلك السر الغامض الذى يميز عملية الخلق الإلهى فى حياة الكائنات، والروح بطبيعتها سامية متعالية تحلق فى الأفق الرحب وتسبح فى الفضاء الواسع لأنها تعبير عن أمر اختص به الله تعالى ذاته وهو ما لا يجادل فيه حتى غلاة الملحدين، إذ إن مصدر الإيمان ينبع من عملية الانتقال من الحياة إلى الموت وهذا الانتقال هو الإيذان الوحيد بالرحيل من دار الفناء إلى دار البقاء.

ثانيًا: إن الجسد بطبيعته وثنيٌ ملوث، فالخطيئة تقترن دائمًا به عدوانًا منه أو نزوات له أو طغيانًا على سواه، ومنذ الجريمة الأولى (قابيل وهابيل) عندما قتل الأخ أخاه كان ذلك تعبيرًا بدائيًا عن خطايا العدوان ومظاهر العنف، ووثنية الجسد تعنى أن حدوده مادية بحتة تتصل بكل ما هو ملموس وتقترب من كل ما هو محسوس ولا تحلق فى الآفاق العليا التى ترتادها الروح وتسمو بها إلى أعلى.

ثالثًا: إن دورة الحياة تبدو متجددة وكأن هناك صندوقًا إلهيًا يضم أرواح البشر من الميلاد إلى الرحيل، ولكنه يعيش وهم اللحظة ويظن أنه أحيانًا ظل الله فى الأرض، بينما قال الحق تبارك وتعالى (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا)، ولعل هذا الوهم الذى استقر فى وجدان البشرية هو الذى سمح بالطغيان والظلم وقهر الغير وإسكات الحق.

رابعًا: إننى ممن يؤمنون بدورة الأرواح فى الأجساد بشكل دورى منتظم، وفى الهند ـ التى عشت فيها سنوات أربعا ـ يؤمنون إيمانًا مطلقًا بمسألة (تناسخ الأرواح)، بمعنى أن الإنسان عند رحيله قد تتقمص روحه حيوانًا أو طائرًا أو حتى حشرة، وأتذكر جيدًا ذات مساء فى منزلى بنيودلهى عام 1979 حيث كنت أعمل دبلوماسيًا فى السفارة المصرية عندما فزعت ابنتاى الصغيرتان وقتها من (برص) صغير يزحف على الحائط أمامهما، وعندئذ طلبت من (الحارس النيبالي) للمنزل التخلص من هذا البرص وقتله بعدما بدأت الابنتان فى الصراخ، ولكن الحارس القادم من جبال الهيمالايا رفض ذلك وقال: (إنه برص صغير لا يزيد عمره عن أسبوعين وأبى توفى منذ أسبوعين أيضًا وقد يكون هذا البرص هو الكائن الجديد الذى تقمصته روح أبى الراحل)! هذه عقيدة شعوب وأفكار أمم لابد أن ننظر إليها بتأمل عميق لعلها تحدث مصالحة بين الروح والجسد فى كينونة الإنسان الواحد.

خامسًا: إن الإنسان ـ من كل الأجناس والأعراق والألوان والأديان واللغات والقوميات ـ هو مرحلة مؤقتة من الوجود فى الحياة، فالأبدية لله وحده، وهو الذى استخلف الإنسان فى الأرض يعمرها ويعيش فوقها ويفنى فيها، إن قضية الوجود والعدم قضية مثيرة للجدل تفتح آفاقًا لا حدود لها من الرؤية البعيدة لفلسفة الكون وطبيعة الوجود، ومهما طال الزمن وامتد العمر فالنهاية قادمة، ولقد فطن المصرى القديم إلى هذه المعادلة الفلسفية المعقدة فتحولت حضارته إلى مقابر بأشكال متعددة وصور مختلفة أهمها الشكل الهرمى الذى قدم للبشرية أهرام الجيزة وسقارة وغيرها من المقابر الفرعونية المقدسة فى عصورها، واحتفظ الفرعون العظيم بأدوات حياته متوقعًا الخلود فى عالم ثان ليستعيد فيه كل مظاهر العظمة التى استمتع بها فى حياته الأولى، إنها أفكار ورؤى لا يمكن أن نرفضها ولا يمكن أيضًا أن نقبلها لأننا لا نملك اليقين الذى اختصت به الذات الإلهية وانفردت به عن غيرها.

هذه تأملات فى الأرواح السامية أمام الأجساد الفانية، إنها المواجهة القوية فى المعادلة المعقدة للحياة بين الروح والجسد، ثنائية تمضى بنا عبر مسيرة العمر وتدفع بنا أحيانًا نحو أهداف عابرة وغايات تائهة وعمر يبدو حصاده فى النهاية كالهشيم، ولكن يظل الصراع مستمرًا والنضال فى الحياة قائمًا لا يتوقف ولا ينتهى لأن الإنسان ابن زمانه ورمز عصره وهو مظهر باق للحياة بما لها وما عليها، فالوجود محنة والحياة اختبار والنهاية حتمية!

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس