بقلم/ مختار الدبابي
يثير الدور القطري الريبة في تونس باستمرار. ومع كل زيارة لمسؤول قطري أو اتصال هاتفي بين الرئيس قيس سعيد وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني تبدأ التأويلات والاستنتاجات، طبعا ليس في اتجاه فرص حصول تونس على دعم قطري كما حصلت وتحصل عليه مصر، ولكن في اتجاه آخر يرتبط بمحاذير ملف الإسلاميين.
ويكثر الحديث عن وساطة قطرية بين نظام قيس سعيد وحركة النهضة الإسلامية، وعن ضغوط قطرية لفائدة من؟ من ذلك زيارة وفد قطري إلى تونس عشية استدعاء راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة للتحقيق في قضية من القضايا التي تثار ضده بسبب مواقف سابقة.
هناك مبالغات وتضخيم في هذا الملف. أولا أن قيس سعيد لا يقبل التدخل في مثل هذا الموضوع، وهو يرى أن الإيقافات التي تجري مسألة داخلية ليس لأيّ جهة خارجية حق التدخل فيها بأي صيغة سلبا كانت أو إيجابا.
ثانيا أن قطر لديها مصالح وحسابات، وموضوع الإسلاميين كان ورقة من ضمن أوراق استعملتها في فترة الربيع العربي ضمن مساعيها لتدعيم دورها الإقليمي، لكن الورقة احترقت لاعتبارات كثيرة، واضطرت الدوحة لأن تتخلى عنها، حتى وإن كان الذين كانوا طرفا في تلك اللعبة لا يعتقدون أن قطر تركتهم أو يمكن أن تتخلى عنهم.
ويمكن النظر إلى العلاقة الحالية مع مصر كتأكيد على أن الإسلاميين ورقة هامشية لدى قطر، ذلك أن الدوحة قدمت وعودا ذات قيمة بالدعم للقاهرة وعملت معها اتفاقيات كثيرة، ولم نسمع أن القاهرة أطلقت سراح قيادات إخوانية في مقابل ذلك، أو أنها قبلت بعودة هذا القيادي أو ذاك من الخارج، أو توقفت عن وصف جماعة الإخوان في الخطاب الإعلامي كـ”جماعة إٍرهابية”.
وتحتاج تونس إلى أن تتخطى حذرها تجاه موضوع قطر، وتنظر إلى مصالحها بشكل مباشر بقطع النظر عن الخلفيات القديمة، وهي خلفيات لم تكن الدوحة لوحدها طرفا فيها، فالدول الإقليمية المختلفة كانت لها أدوار متعددة في موضوع الربيع العربي وما بعده، لكن الجميع غادر ذلك الملعب وبات يبحث عن مصالحه، والمصالحات الإقليمية عبرت تلك المرحلة بسرعة، فلماذا تستمر تونس في البقاء لوحدها في ملعب تركه كل اللاعبين؟
هناك مخاوف تونسية مبالغ فيها من ملف الإسلاميين في بعده الإقليمي، وهي تتصرف بمحاذير أيديولوجية للطبقة السياسية أكثر منها حسابات دولة، بمعنى أن الصراعات الداخلية، وميراث الكراهية بين الإسلاميين وخصومهم ما يزال يغطي على المصالح ويعوقها، في حين أن دولا أخرى، وخاصة من الخليج، قد أغلقت ملف الربيع العربي وعداواته بشكل كامل وتركته وراءها.
ويتذكر الجميع الحملات الإعلامية والسياسية بين قطر وخصومها السابقين أو بين تركيا وخصوم حليفتها قطر، وكيف نشط الذباب الإلكتروني إلى درجة عالية من التوتر، وخاصة في موضوع الصحافي السعودي جمال خاشقجي، لكن في لحظة واحدة تم توقيف النزيف لأن ثمة جهات عليا واعية بمصالحها وتعرف أن الخلاف السياسي لا يجب أن يتحول إلى معارك بين الشعوب، ولا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية.
في تونس، الصورة عكسية تماما، ورغم أن البلاد في وضع مالي صعب، وتحتاج إلى التفاتة من أيّ بلد خليجي لديه الاستعداد للاستثمار أو تقديم دعم مالي عاجل، فإن الطبقة السياسية التي تتحكم فيها الأيديولوجيا وحساباتها السياسية تعرقل فرص الاستفادة من الاستثمارات، وفرص النجاة من الأزمة التي تعقدت خلال العشرية الماضية بسبب صراعات السياسيين من موالاة ومعارضة ونقابات ممن لا خبرة لهم في إدارة الدولة.
ولا يخص الأمر قطر لوحدها، فالأيديولوجيا نفسها هي التي تقف وراء لجوء تونس إلى صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على تمويلات تساعدها في تنفيذ إصلاحات عاجلة وضرورية لتطويق خسائر حكم المجموعات السياسية التي لم تكن تعرف الدولة ولا تعقيدات الحكم.
ومن حق اليسار أن يعارض الاستنجاد بصندوق النقد الدولي لأن نظريته تقول له إن الصندوق أداة من أدوات السيطرة الإمبريالية. ومن حق اتحاد الشغل أن يخشى على مكاسبه ونفوذه القوي في الشركات الحكومية من إصلاحات صندوق النقد التي تستهدف إصلاح هذه المؤسسات. لكن من حق الدولة أيضا أن تفكر بمصالحها هي.
فالفرصة مواتية أمام الرئيس قيس سعيد لأن يقطع مع هذا الميراث الكلامي المرضي، وأن يفعل ما يفعله الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي لا يجد أيّ غضاضة في مصافحة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحرارة ولا أن يمتدح دور قطر وأميرها الشيخ تميم.
ولمسنا هذا التوجه في الأيام الأخيرة مع زيارة الشيخ خالد بن خليفة بن عبدالعزيز آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية على هامش اجتماع وزراء الداخلية العرب. كان خطاب الرئيس سعيد، أو حكومة نجلاء بودن، واضحا وصريحا باتجاه التعاون الاقتصادي دون حذر مبالغ فيه كما يحصل في مرات سابقة.
وفي لقائه برئيس مجلس الوزراء القطري أكد الرئيس التونسي على أن العديد من المشاريع الاستثمارية والتنموية بقيت معطّلة ولا بدّ أن تجد طريقها إلى التطبيق وتجاوز كل العقبات التي تقف حائلا أمام تنفيذها، وفي هذا إشارة إلى حالة البرود التي استمرت وقتا أطول من اللازم بسبب محاذير ملف الإسلاميين، وخاصة من جانب تونس في ظل تحميل قطر مسؤولية صراعات سياسية داخلية مع حركة النهضة، وهو ما قاد إلى توقف المشاريع القطرية في تونس.
ووفق ما نقل موقع الرئاسة التونسية على فيسبوك فإن الشيخ خالد بن خليفة قد أعرب “عن استعداد بلاده لتمويل عدّة مشاريع بتونس أو المساهمة في إنجازها على غرار منصة الإنتاج بسيدي بوزيد ومستشفى الأطفال بمنوبة، فضلا عن التعاون في المجال الرياضي عبر نقل أحد الملاعب التي احتضنت نهائيات كأس العالم الأخيرة إلى تونس”.
وتطرق اللقاء بين الرئيس التونسي ورئيس مجلس الوزراء القطري، أيضا، إلى التونسيين الذين يعملون في مختلف القطاعات في قطر وهو وجه من وجوه التعاون بين البلدين الشقيقين، حيث تم التأكيد على الاستعداد المشترك لتعزيز حضور الكفاءات والإطارات التونسية في قطر وتنويع مجالات التعاون الفني وتبادل الخبرات في عدّة قطاعات.
وأعتقد أن زيارة الشيخ خالد بن خليفة وقبل بأيام استقبال الرئيس سعيد لوفد قطري برئاسة محمد بن عبدالعزيز بن صالح الخليفي، مساعد وزير الخارجية القطري للشؤون الإقليمية، ثم الاتصال الهاتفي مع الشيخ تميم، كلها عناصر تظهر أن تونس في طريقها لتطويق الخلاف مع قطر وبناء الثقة معها والاستجابة لفرص الاستفادة من مستثمر جدي ما يزال يرى في تونس وجهة مطلوبة.
وهناك مؤشرات على أن قطر ستكون واحدة من الدول المانحة التي تمول تونس بعد النجاح في التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وبالنتيجة، فإن الأهم الآن هو فتح الطريق أمام الاستثمارات القطرية، وبعد ذلك، وليس قبله، يمكن الحذر والشك والمتابعة والتساؤل إن كانت الدوحة تريد أن تتدخل لـ”إنقاذ الإسلاميين” أم أنها تتدخل لترضية قيس سعيد وفتح قنوات التواصل معه.
فمن حق الطبقة السياسية أن تقرأ مواقف قطر وبرامج قناة الجزيرة على الطريقة التي تراها مناسبة لها ولتأويلها، لكن كل ذلك لا يمكن أن يعرقل بناء علاقات اقتصادية واستثمارية ودبلوماسية بين البلدين. الدول تفكر في المصالح والسياسيون يفكرون في حساباتهم الخاصة.
*كاتب وصحافي تونسي
نقلاً عن العرب اللندنية