سام برس

للشاعرة : رحمة عناب – فلسطين

بقلم / كريم عبدالله – العراق

اذا كان السرد النثري هو سرد قصصي – حكائي يقصد الحكاية او توصيلي بشكل خطاب ورسالة أوالوصف , فأنّ السرد في الشعر هو سرد لا بقصد السرد , هو السرد الذي يمانع ويقاوم السرد , أنّه السرد بقصد الأيحاء والرمز ونقل الأحساس وتعمّد الأبهار وتجلّي لعوالم الشعور والأحساس و تعظيم طاقات اللغة , فأنّ ما نقصده بالتعبيريّة أو اللغة التعبيريّة فهي اللغة التي تتحدث عن المشاعر والعواطف والحالات الذهنيّة عن طريق تكثيف اللغة وأنزياحاتها العظيمة والدهشة المبهرة , أنّها التعبير عن مشاعر الذات الأنسانيّة وعمّا يدور في داخلها وأعماقها , وما يستغور في عوالم الذات الأبداعيّة الخلاّبة والغامضة , وعن طريقها يمكننا أن نتلمّس ونشاهد العوالم الداخلية للشاعر ., أنّها التجربة الداخليّة للذات الشاعرة والتي لابدّ لها من أن تظهر على السطح وتستفزّ المتلقي .

ويخطىء مَنْ يظنّ ويعتقد بأنّ التعبيريّة هي الكلام المعبّر عنه بالحكي والقصة والأنشاء العادي والسطحي , لهذا فأنّ الكتابة المباشرة والسطحية تجعل العقل تابعا لما يقرأ , وحينها يكون العقل أعمى وبليد يعيش في رتابة وخمول , عكس الكتابة باللغة التعبيريّة التي تحتاج الى قارىء يمتلك حدسا يقظا نشيطا مبدعا , حدس قويّ يمكّنه من أكتشاف العوالم الداخلية البعيدة عند الشاعر, أنّ اللغة التعبيريّة هي التعبير عن القيم المعنوية لدى الشاعر بدلا عن محاكاة الواقع , أنّها التعبير عن مشاعر الذات , أنّها الذاتية الأبداعية التي تغور في العوالم الدفينة والغامضة لهذه الذات , أنّها التعبير عمّا يدور ويتجلّى في داخل الأنسان . أنّها الأشراقات عن الحالات الذهنية والنفسية دون اللجوء الى الخيال والرومانسية , هي أنعكاس لما يحدث في هذا العالم من الخراب ومدى تأثيره في نفس الشاعر , أنّها الرؤية العميقة والتأمّل في أعماق الذات , أنّها تبتعد عن محاكاة ما يحدث على أرض الواقع ؛ حيث يقوم الشاعر بالسعي الى وقعنة الخيال . تحتاج اللغة التعبيريّة الى لغة مغايرة مستفزّة تشوّه الواقع واعادة صياغته ورسمه من جديد , فتكون المقاطع النصّية في القصيدة التعبيرية عبارة عن كتل من المشاعر الدفينة المتأججة والباحثة عن الأنطلاق من داخل الذات الى الواقع الحقيقي , وفيها نجد كمّ هائل من هذه المشاعر والأحاسيس المرهفة والعميقة. أّنّ اللغة التعبيريّة دائما تسعى الى خلق فضاءات واسعة عن طريق تسخير الخيال الخصب ورسم هذه المشاعر والأحاسيس بطرق ابداعية خلاّقة .

أنّ اللغة التعبيريّة تحاول ان تبثّ النشاط والحيوية في عقل الأنسان , في لا تنقل صور الواقع كما هو , فهي تبتعد كثيرا عن هذا الواقع , أّنّها غرابة اللغة وانزياحاتها العظيمة بطريقة ابداعية محببة تجعل الألفة ما بين المتلقي والذات الشاعرة المأزومة نفسيا وعاطفيا , الذات المملوءة بالقلق واليأس والغربة , الذات التي ترى القادم مجهولا مظلما يعجّ بالضياع والغربة والتشاؤم ,. كلّما تزداد الأزمات تظهر القصيدة التعبيريّة عند شاعرها بعدما ينصهر الوجود في خياله وأعماقه , فمن خلال قصيدته ( التعبيريّة ) يحاول الشاعر أن يفرغ الشحنات العاطفية الهائلة في أعماقه , فنراه كأنّه يقدّم جزء من ذاته , أو يقتطع أجزاء من قلبه الرهيف المفعم بصدق المشاعر وكتلة من الأحاسيس والعواطف العاصفة , فمن خلال كتابات الشاعر يمكننا ان نرى بوضوح عوالمه الدفينة ومشاعره الرقيقة. أنّ اللغة التعبيريّة هي اللغة البلّوريّة التي نكتشف من خلالها العوالم الداخلية والدفينة لروح الذات الشاعرة , فهي بمقدورها أن تقدّم لنا قدراً كبيراً من العالم الباطني مقابل قدراً قليلاً من العالم الخارجي ,.لقد أستطاعت اللغة التعبيريّة أن تمنح الشاعرة الحرّية في ان تعبّر عن أعماقها البعيدة . أنّها لغة الأعماق التي تجعل روح الذات الشاعرة برّاقة ومن خلالها نتمكن من رؤية تلك الأعماق كيف تتجلّى اشراقاتها بوضوح , تلك الروح التي تكون كالبلّور شفّافة رقيقة ناعمة الملمس من خلالها تنفذ اشعة الشمس .

أنّ الكتابة عن الشاعرة : رحمة عناب تتطلب جهداً وصبراً كي نتمكن من الأمساك بجمال المفردة الممزوجة بدهشة الفقرة النصّية وعظمة اللغة المبهرة , فهي الشاعرة المخلصة لقصائدها والتي تأتي دائماً من أعماق الذات البعيدة مشحونة بزخم شعوري عنيف , وأختيار ذكيّ وموفّق في رسم الصورة الشعرية التعبيريّة من خلال المفردة الأكثر تأثيراً في المتلقي والنفاذ الى ذاكرته . أنّ أغلب نصوص الشاعرة تأتي دائماً على شكل كتلة واحدة وبفقرة نصّية واحدة وهذا ما يستدعي الى وجود قارىء مجتهد ومبدع كي يتمكن من فكّ شيفرات هذه النصوص ومعرفة الدلالات التي توحي بها , واليوم سنتحدّث عن اللغة التعبيريّة في نصّها المعنون / وجهي .. صبحٌ مدلهم الشروق / , من خلال عتبة النصّ نعرف كمية الحزن العميق والآلآم والغربة والتشظّي , بدأت الشاعرة بـ / وجهي / هذا العضو الذي تظهر عليه كافة التأثيرات النفسية نتيجة ما تعانيه الذات الشاعرة ,/ وجهي ../ هكذا تركت فراغاً للمتلقي أن يملأه بما يراه مناسباً وحسبما يمتلك من ذائقة وثقافة ورصيد معرفي , ثم تكمل العنوان بـ / صبحٌ مدلهم الشروق / نرى هنا البراعة في تسخير وتثوير طاقات اللغة والنحت عن طريق أنزياح اللغة وغرابتها , نحن نعلم بان التحدث عن اشياء أثيرة الى النفس وطرح مواضيع لها تاثير ووقع في هذه النفس سرعان ما ينعكس تأثيرها على الوجه ثم يتغلغل هذا التأثير الى اعماق النفس والقلب , وحينها ستقوم الذات الشاعرة بترجمة كلّ هذا من خلال كتاباتها , ومن هنا / وجهي / تبدأ رحلتنا مع الشاعرة في عوالمها القصية ونرى بوضوح كلّما تعانيه وتشعر به وتدركه . تبدأ الشاعرة بالفجيعة والخسارة والضياع والخيبة , وهذه الفجيعة ستترك ابعادها النفسية في هذه الذات الشاعرة , وسيتجلّى هذا الفقد ويشعّ على طول نسيجها الشعري , / مفجوعٌ فؤادي غيماته تمطر سيول جمرات تكوي أيام البهجة / ..

نرى هنا هذا الكمّ النيران الملتهبة في القلب , فهاهي غيمات هذا الفؤد المفجوع تمطر حمماً ملتهبة تأكل ايام البهجة والفرح , ثم نسترسل معها ونقرأ / من جديد عاد وجهي يترقّبُ رجفة صبح مدلهّم الشروق / فرغم هذه الحرائق المستعرة في القلب فمازال وجه الشاعرة ينتظر معاوداً هذا الأنتظار يترقب شروق الفرح والخلاص مما تعانيه , لكن ../ يبصرني ليل تنازعت خيباته تغفو على شغاف دفاتري ترتدي / الخيبات مازالت تتنازع ليلها وهي تغفو على أحلامها وتقضّ مضجعها فتحيله الى ليل مرعب بكوابيسه فترسمه بعناية فائقة من خلال لغتها , نلاحظ في جميع نسيج الشاعرة الشعري هذه الأنسنة المدهشة واللغة المثيرة , فهاهي تُلبي أحلامها جلاليب وتبعث فيها الروح ../ ترتدي أحلامنا جلابيب طاردها وباء يرتل آهة الكذبات / هذه الأحلام الموصومة بالوباء والكذب وعدم الجدوى وصعوبة التحقق , نلاحظ هنا كيف تتحدث الذات الشاعرة عن عوالمها البعيدة وتعبّر عن مشاعرها وعواطفها المكبوتة ../ مكبّل صوتي يتلبّسه قلق يتكاثر على حبال هواجسي / فحتى صوتها أصبح مكبّلاً وقد استشرى فيه القلق الذي يخنق حتى الهواجس , فهذا الهواجس والمخاوف ما برحت ترافقها وتثير فيها الفجيعة ../ تتبعني تُدمي وسائد السكينة بعثرت أطراف وجع مرصع بالأسى / نلاحظ كيف تعبّر عن ذاتها وكيف تسعى الى سحبنها الى عوالمها النفسية والذهنية , هنا تقف الشاعرة في محاولة لأخذ قسط من السكينة وأستجماع قواها لتعاود رحلتها العميقة ../

آلآن وقد أثكلتنا فصول أستدام جدب أقدارها من يدرأ متاريس الضياء عن أفقنا البعيد و يعصم أبوابنا من صرير يغلف زفير خوفنا الشاهد موت ضحكاتنا / وبعد ان تحوّلت مواسمها الى مواسم جدب وخواء تتساءل نفسها المعذّبة : مَنْ بمقدوره أن ينتشلها من كلّ هذا الخوف وموت الضحكات ..؟؟!! .

ثم تتساءل في حيرة ../ أترى حلمي لفظ أنفاسه على أسوار علت في وجه الصباح أم أنّ زعيق الخيبات تجاسر يصحر مواسمي الآتية توعدني شلّ مناهل بيادري و راح يغتال عصافيري التي شكّلت وجهي و أسراب النجوم الذي جاست ترهلاته صوب روحي تنامت عميقاً في باحاتها المضيئة عتمة حزّت رقاب قناديل إنسانيتي / هل انّ حلمها الموعود قد لفظ أنفاسه الأخيرة ام ان صراخ الخيبات اصبح اكثر علوّا وتجاسر بعناد يصحّر مواسمها القادمة , وهو يتوعدها في أن يشلّ حركة عيون مياها الدافقة بالحبّ والجمال والبراءة , وراح يغتال عصافيرها ويحزّ مواطن الضياء في روحها , ثم تقول ../ يجتثّني ترهّل الزمن المخطوف من صباحات كانت تصحو على مشارف الأمل لكنّ عويل الشتات عاد يُغرِق عناوين ذاكرتي في لجّة المنافي / كيف يفعل الزمن لعبته الخبيثة معها ويخطف البهجة من صباحاتها التي كانت مفعمة بالأمل والبشرى , لكنّ ذاكرتها تغرق في لجّة المنافي نتيجة المحنة والمعاناة والفجيعة , وها هي الذات تتوجع بحسرة وألم شديدين ../ آآآآآه كم أسقطني نضوج الحزن على أشجار بلادي في غيبوبة لم تترك صحواً في مدائن أعجزتها شراهة جهل تمدّد في مساراتنا العرش فيها ضجيج جبروت معتم / فالحزن أصبح ناضجاً وشراهة الجهل تمدّدت بخبث ومكر فتحول العرش الى ضجيج وعتمة , وبعدما اعياها هذا الفقد والغربة والتشظّي ها هي تلجأ الى الله مستنجدة منه الخلاص وانتشالها من هذا الحون الناضج وفتح أبواب السلام والسكينة في روحها ../ رباه ماذا سأدوّن على جذوع الذاكرة غير متوالية محن تأكل سنابل العمر أجيل البصر في سماوات ما زال يشربها الغروب لا انسَ عري بكائي الذي تستبد به حشرجة أسااااااايَ / , لكن يبدو بانّ ذاتها الشاعرة مملوءة ستبقى بالمحن وهي تتكاثر وتاكل سنوات العمر التي تصرّمت وراء ابواب الفجيعة الخيبة , فمازال الغروب يعشعش في عينيها ومازال البكاء ومازالت حشرجات وأسى يمور فيها عميقاً .

لقد تمكنت الشاعرة ومن خلال البناء الجملي المتواصل وفي سرد تعبيري نموذجي ان تكتب لنا قصيدة بفقرة واحدة وبـ أكثر من عشرين سطر أفقي واحد ومستمر أن تجعلنا نتلمس رذاذ لغتها التعبيريّة وهي تغمر ارواحنا وتنتشلنا من الخمول وتستفزّنا بهذا الكمّ الهائل من اللغة العظيمة والتوهّج والدهشة . لقد أستطاعت الشاعرة عن طريق لغتها التعبيريّة هذه التعبير عن الجانب الشعوري المتمثّل عن حالات الفرح والحزن ومن الحالات النفسيّة التي بقيت تتأجّج في أعماقها , واستطاعت الألفاظ على نقل المشاعر الدفينة والعميقة بصدق وشفافيّة , وجعلت المتلقي يتفاعل معها عن طريق التأثير الحسّي والأيحاء والتأويل , وأستطاعت أن تفرز تعبيرات أنسانيّة – وجدانيّة – تخاطب الأنسان في كلّ مكان وزمان .

النصّ :وجهي صبحٌ مدلهم الشروق

وجهي .. صبحٌ مدلهم الشروق

مفجوعٌ فؤادي غيماته تمطر سيول جمرات تكوي أيام البهجة من جديد عاد وجهي يترقّبُ رجفة صبح مدلهّم الشروق يبصرني ليل تنازعت خيباته تغفو على شغاف دفاتري ترتدي أحلامنا جلابيب طاردها وباء يرتل آهة الكذبات مكبّل صوتي يتلبّسه قلق يتكاثر على حبال هواجسي تتبعني تُدمي وسائد السكينة بعثرت أطراف وجع مرصع بالأسى آلآن وقد أثكلتنا فصول أستدام جدب أقدارها من يدرأ متاريس الضياء عن أفقنا البعيد و يعصم أبوابنا من صرير يغلف زفير خوفنا الشاهد موت ضحكاتنا أترى حلمي لفظ أنفاسه على أسوار علت في وجه الصباح أم أنّ زعيق الخيبات تجاسر يصحر مواسمي الآتية توعدني شلّ مناهل بيادري و راح يغتال عصافيري التي شكّلت وجهي و أسراب النجوم الذي جاست ترهلاته صوب روحي تنامت عميقاً في باحاتها المضيئة عتمة حزّت رقاب قناديل إنسانيتي يجتثّني ترهّل الزمن المخطوف من صباحات كانت تصحو على مشارف الأمل لكنّ عويل الشتات عاد يُغرِق عناوين ذاكرتي في لجّة المنافي آآآآآه كم أسقطني نضوج الحزن على أشجار بلادي في غيبوبة لم تترك صحواً في مدائن أعجزتها شراهة جهل تمدّد في مساراتنا العرش فيها ضجيج جبروت معتم رباه ماذا سأدوّن على جذوع الذاكرة غير متوالية محن تأكل سنابل العمر أجيل البصر في سماوات ما زال يشربها الغروب لا انسَ عري بكائي الذي تستبد به حشرجة أسااااااايَ...

حول الموقع

سام برس