سام برس
فى ذكري ثورة التحرير الجزائرية اهدي هذه القصة الى شعوب امتنا العربية
جزائرية ومصري .. قصة كفاح عربى


محمود كامل الكومى

تَلثمت .. والى الأحراش أرتمت مابين كوخ في الجبال وطريق وَعِر أو أرض مَلْسَاء، سارت حيث من يتدربون على السلاح للكفاح بهدف التحرير على طريق طويل من النضال فاق المائة سنة – طلبت التدريب -

الكل يعرفها ويوقرها ويحنو عليها، فأبيها واخيها واخيرًا زوجها، شهداء
على طريق النضال ضد جيش الأحتلال الفرنسى، تيتمت صغيرة وترملت
في ريعان شبابها،وكذا ولديها التوأم يتامى في السنة الأولى وقد فارقا
الحبو وصارا يتسندان من اجل الوقوف – لكنهما صمدا في غرفتهما الى
أن تعود الأم فيلقما نهديها بلهفة بعد جوع حاصرهم،بيد أن اللبن
مِدراراَ ينساب وكأن النهر يروى فَلاةِ من الأرض .

أما وقد أكتمل التدريب على السلاح فقد بدت تستعد لأصطياد عساكر الأحتلال , أخذًا بالثأر ممن يَتَمها ورمَلها، وجعل أولادها بِلا أب يرعى ويعول، وفى الأخير من أجل التحرير الكامل للتراب لابد من قتال الأعداء .
من قريب او بعيد لم يتصور عدو ولاصديق انها يمكن أن تكون مُحارب شجاع ولايتبادر الى ذهن أى ممن عاصروها أن تقتل ولو جرذ من الجرذان – لكنها في كل يوم كانت تُوقِع متيسر لها من جنود العدو الفرنسى، وتعود بخفة ورشاقة وجرأة فياضة،وكأن شىء لم يحدث،تُلقِم صِغارها ينبوع البطولة من نهديها ليُدِر أكسير الكفاح والنضال، فيشُب الوِلدان أبطال ورجال أو أحد قوافل المليون ونصف المليون شهيدًا.

كانت الثورة المصرية تشق غِمار الصِعاب وتشعل العالم العربى نورًا وضياء، تساند الشعوب من أجل التحرر وتنادى بالتحرير للجزائر وعُمان وبالثورة على الطغيان، وثار صوت جمال عبد الناصر في أثيرِ الفضاء يلهب الثوار وبدا أملاً لكل من حمل السلاح ضد طغيان الأحتلال .

تواترت العمليات ضد جنود الأحتلال الفرنسى في الجبال والغابات، وبدت ديناميكية القتل روتينية لعشرات القتلى خلال اشهر معدودات على بنان اليد، وكلها تشير ان الفاعل واحد، وأن سيدة من تقوم بقتل الأعداءِ.

كان البَصَاصُون واليد الحمراء، فضاق الخناق حول ( نجاح)، وهى تتنقل بطفليها من كوخ لآخر وبين الأحراش هنا وهناك، وأدرك بعض الثوار طبيعة مأزقها، فتابعوها عن كثب أملًا في تغيطتها والتمويه، لكن الخناق قد بدأ يضيق رويدا رويدا، فأبلغوا نفرًا من المخابرات المصرية الذى أنغرس هناك بالتعاون مع المجاهدين الجزائريين لمساعدة الثوار، وتمهيد الطرق وتأمينها لوصول السلاح المصرى بأمان .

فى لحظة وضحاها أختُطِفت (نجاح ) وطفليها الى القاهرة، حين أنطلقت كلمة السر من صوت العرب بالقاهرة .
كانت الرعاية والعناية من أعلى مستويات القياده المصريه قد أحاطت (بنجاح ) وطفليها – حيث تم معاملتهم معاملة المصريين ويزيد،وأصاب التعليم خاصة اللغة العربية نجاح وبدا انها تُعَد للعب دور سياسى في محيط قضية التحرير الجزائرية وشب ولديها ( عبد القادر ورياض) بين ربوع حضانة اللغة وبدايات التعليم.

شهدت (نجاح) ميلاد أول حكومة جزائرية في المنفى بالقاهره، وصارت ضمن سكرتاريتها، وحلقة الوصل
بينها وبين الحكومة المصرية، لتقديم المساعدات والتنسيق السياسى والعسكرى، وصار تصاعد العمل الثورى الجزائرى من القاهرة الى الثوار على أرض الواقع والمعارك بجبال الجزائر .

نشبت علاقات حميمه بين نجاح وطفليها ( عبد القادر ورياض )وكانا في أولى مراحل التعليم الأبتدائى وبين أسرة الزعيم الكونجولى (لومومبا) الذى اغتاله عملاء الأستعمار، فأتى جمال عبد الناصر بأولاده الى القاهره واحتضنهم اِجلالا واحتراما لروح مناضل شرس ضد الاستعمار ومن اجل الأستقلال،كانت نجاح في كل لقاء مع أسرة لومومبا واولاده تعمل على ان ينصهر ولديها مع تاريخ النضال العربى الأفريقى .

عم الفرح والسرور قلب نجاح وبادرت بتوزيع الشربات وساعدها كل محبيها من المصريين حين أُعلن في 5 جوليه 1962أستقلال الجزائر – كانت نجاح قدوة في محيطها السكنى بالقاهرة وصارت مضرب الأمثال والِأيثار، وبدت محبوبة من كل من رأها، وغدا ولديها نجوم في المجتمع الطلابى وقد خفقا قلبهما بأليف من زغاليل الطيور وهما في المرحلة الثانوية – وكانت نجاح تدرك اِن عاجلا أو أجِلا فأِن الأمل معقود على أن تعود الطيور المُهاجرة الى عشها أرض الجزائر بعد الأستقلال، لكن خفقان قلبها أثار الشجون وبعث الروح من جديد وضخ الدماء في العروق
لقلب كان قد بدأ في الضمور .

كان مكلوم مهموم هائم لايدرى عن النسيان أنه من سمات الأنسان. لكن مع أول لقاء بنجاح بدت الأنسانيةتحوم بين جوانِحه، فأدرك العودة من جديد..

كان (مروان) قد أتى وصغيرته في ربيعها الثانى (حنان) الى القاهرة في أعقاب العدوان الثلاثى1956 على بور سعيد وكانت زوجته وطفلة الرضيع صيد ثمين لطائرة فرنسية أغارت على حى الزهور، فسال الدم يروى التراب المصرى نتيجة العدوان الفرنسى، كماسال من قبل يروى أرض الجزائر من اجل الأستقلال عن الأستعمار الفرنسى.

كان مروان متطوعًا في المقاومةالشعبية بالمدينة الباسلة، من خلالها استطاعوا قتل العديد من أفرادالمظلات الأنجليز والفرنسيين .

أِلتَقيا معا في أحد المحافل في أول أحتفال بعيد ثورة 23يوليو عقب استقلال الجزائر في 5 جوليه 1962، وكان الكل يستمع الى خطاب الزعيم جمال عبد الناصر كان مروان منفعلا في الهتاف وكانت نجاح تذوب في كل كلمة من الخطاب، وكان اللقاء في الختام أسير الأشجان.

سردت نجاح حكايتها، وأثار مروان أشجان الذكريات، وذاب الأثنان الى حد الثمالة، وصارت حكاية مروان ونجاح الى أن تكللت بالنجاح، كان حبهما ابديا لايدانيه حب وترعرع عبد القادر ورياض في كنف والدهما الجديد مروان وصارت نجاح الصدر الحنون ل (حنان)تسقيها أكسير الأمومة عوضا عن أمها المغدورة،وأنصهر الدم المصرى والجزائرى يشكل أسرة عربية جديده في بوتقة النضال ضد الأستعمار والعدوان .

وكان العناق الأخير، بوفاة الزعيم ناصر في 28 سبتمبر 1970، على أثرها اصيب مروان بسكتة قلبية فغادر الحياة، وغادرت نجاح القاهرة وولديها الى الجزائر،وبناء على طلب حنان غادرت مع نجاح ,ليستعيد الكل نبض الحياة بعد الأستقلال .

توجت أسرة نجاح في الجزائر الرسمية والشعبية بعظيم الأمتنان و تسابق الكل ليقدم لأفرادها التيسير والتقدير والعمل الوتير، وصارت (حنان) المصرية محط الأنظار واستحوذت على عظيم الاِثار، وعجلت نجاح بزواجها بعد أن لان قلب حنان لفتى غض الاِهاب لكنه سليل أسرة جُلها رجالات كفاح وشهداء خضبت الرمال،وأطمأنت نجاح على الأمانة التى أودعها لديها زوجها مروان وطمأنت روحِه في عُلاها ، لينصهر الدم المصرى والجزائرى يعزف لحن العروبة من جديد .

دفعت نجاح بولديها رياض وعبد القادر الى الجيش الجزائرى رغم كل المُبررات التى كانت تعفيهما من التجنيد الِألزامى، فيما أرادت أن ترى غرس البطولة والنضال يطبق في الواقع العملى، وقد كان .

وحين أعلن عن حرب أكتوبر 1973، اعلنت الجزائر عن ارسال قوة من الجيش الجزائرى والعتاد الى جبهة قناة السويس توسلت نجاح بما لها من تأثير أن يذهب ولديها معًا الى هناك وعلى الفور كانت القوة تأخذ مكانهاعلى خط النار، وكان العبور على أفق ممتد من غبار المعارك ولهيب النار وكانت شراسة المعركة تعيد للأذهان معارك الحرب العالمية الثانية وروى الشهداء أرض المعركة واختلطت الدماء العربية على أرض القنال.

وفى سيناء وسطر رياض وعبد القادر قبل استشهادهما ملامح البطوله والشهامة التى غرستها فيهما نجاح وحبهما لمصر الذى فاح عبر اثير الفضاء طار خبر استشهادهما الى نجاح فضمت حنان الى صدرها وأمسكت بمحيط بطنها التى كانت حُبلى بتوأم فنظرت اليها نظرة المتوسل فأغرورقت عيون حنان بالدموع وفهِمت الموضوع، وعانقت أمها الحور (نجاح )ونذرت مافى بطنها لله وللنضال ضد الصهاينة حتى تحرير فلسطين وبمُسمى عبد القادر ورياض ليشبا على طريق النجاح .

*كاتب ومحامي - مصرى

حول الموقع

سام برس