بقلم/ د. باسل عادل
لكل أمة صفحات تدون فيها تاريخ الحياة السياسية، تتضمن مسار الجهود والآلام والمحاولات التى كابدتها فى سبيل الحرية والنهضة والازدهار، ولعل مصر وهى أقدم دولة فى التاريخ لها نصيب كبير من الحركة التاريخية والقومية، وقد تعرف القومية فى المعجم بأنها صفه اجتماعيه عاطفيه تنشأ من الاشتراك فى الوطن والأرض ووحدة التاريخ والأهداف، وبشكل أدق فإن القومية المصرية تشير إلى الحضارة المصرية عموما والناتج الثقافى والوطنى، حيث إنها تعبر عن وحدة المصريين أبناء الأرض بغض النظر عن العرق أو الدين، لذا فهى قوميه «مدنية» بفضل التعريف والممارسة. وقد اعتبرت مصر أقدم نظام إقليمى مستقل فى العالم يعود تاريخه لعصر قدماء المصريين الذى يطلق عليهم اصطلاحا الفراعنة، فبقدرة السياسة بنى الفراعنة حضارة أطلقوا فيها العنان لسياسة قدرة المصريين على صنع المعجزات، فأقاموا كبرى عجائب الدنيا السبع وشيدوا الأمجاد العابرة للزمن!.

على مر العصور نجحت مصر «الشعب والدولة والأرض» فى بناء قوميه متماسكة حققت إنجازات مرموقة، ولعل كونها مطمعا دائما للاحتلال بصفتها ارض وادى النيل الخصبة، وبحكم موقعها على البحر الأبيض المتوسط الذى يربطها بأوروبا والعالم الغربى، والبحر الأحمر الذى يربطها بالشرق جعل البناء السياسى المصرى يرتبط بالأمن القومى والجيش ارتباطا وثيقا، لان ما كابده المصريون من احتلالات متوالية وأطماع أشعرهم بقيمة الأرض وضرورة حراستها وحمايتها والزود عنها، ولعل أطماع جيش الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين على حدودنا حاضره طوال الوقت فى الأذهان، كما النزاع على السلطة فى ليبيا والسودان على حدودنا شاهدة ومنذرة، لذا فمنظور الأمن القومى يقود فكر المصريين السياسى ويتحكم فيه، ولكن لابد ونظرا للظروف الاقتصادية الحالية التفكير فى تحولات منهجية فى الفكر السياسى تزاوج بين ضرورات الأمن القومى وبناء الثقة فى قدره المصريين فى أنفسهم و يقينهم من التمكن من النهوض والنجاح.

ان التحول نحو بناء سياسى جديد بفلسفة القدرة أصبح حالا وضروريا، حيث إن أبرز التحديات بجانب الأمن القومى الآن هى التحديات الاقتصادية، ولمواجهه تلك الصعوبات لابد من بناء سياسى بمفهوم مختلف، وأعنى هنا بالبناء السياسى الحكومة والأحزاب والنخبة السياسية والشخصيات العامة التى تقود فكر الأمة وتوجهاتها، فقد يكون أكبر إنجاز لعصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر هو شحذ همه المواطنين بكل قوه حول المشروعين الأدق والأعمق وهما التحرر الوطنى والإنتاج، قد تكون هناك إخفاقات سياسية مروعة لناصر، وقد يكون البناء الفكرى للمرحلة الاقتصادية وقتها تخطاه الزمن الآن، لكن لا يمكن ان تتدبر عصر ناصر دون النظر لشحذ الهمة الوطنية حول إيمانهم فى قدرتهم على النهوض والتحقق، وهنا أعنى ضخ روح القدرة والعزم فى نفوس المصريين، قد لا يكون روج لها بنظام سياسى حر متكامل لكنه اعتمد على كاريزما شعبية وثورة كرامة وطنية أعطته شرعية استثنائية، وأتاحت له ان ينجح وحده فى توجيه العقل الجمعى نحو مسار الإنتاج، وان كان نهج العمل أخفق باعتماده فقط على القطاع العام واتهام القطاع الخاص بالاستغلال وتأميم أموال النماذج الناجحة منه، ولكن رغم المجهود وطفرة بناء المصانع والمرافق وقتها فإنه لم «يمر» ناصر ولا الشعب ولم ينطلقا لمجتمع الرفاه والتقدم، وأخفق فى الخروج من نفق الفقر والعوز والاستدانة رغم إخلاص النية ولكنه لم يخلص فى نوايا التحرر السياسى للشعب المصرى، لذا فقد تمكن ناصر من ضخ سياسة القدرة لكن ظلت السياسة نفسها غير متمكنة فى المجتمع وغير قادرة على صنع فارق داخلى!!

الشاهد أن مصر لا تستحق الفقر، ولكنه حصاد سنوات من التراخى واضمحلال الإدارة والسياسة، وقد يكون للحروب دور لكنه ليس دورا محوريا فكم من أمة فى العالم حاربت ولكن ظلت منتصرة اقتصاديا. تؤكد قراءات النجاحات فى الأمم المتحققة اقتصاديا ان البناء السياسى بالكامل وبناء الفكر والمعتقدات الشعبية تتمحور هناك حول قيمة العمل والقدرة على النجاح، ودفع أثمان المرور من نفق الإصلاحات الاقتصادية حتى يسطع نور التفوق الاقتصادى فى نهاية النفق.

ان النجاح فى بناء اقتصاد واعد يتلخص فى مجموعة من التوجهات والقرارات الفنية ولكنها تظل رهن «الرغبة والإرادة والرؤية السياسية»، فإن كان الاقتصاد من الممكن ان يعيد توجيه السياسة، ففى الأصل السياسة هى التى تصنع الاقتصاد وتوجهاته وقوته وتؤثر فى حيويته وحريته واستقلاله.

ان من نافل القول إن السياسة تتبع الاقتصاد ولكن فرض العين يحتم علينا ان تبنى السياسة الاقتصاد بقرارات وتوجهات ورؤية تضع الاقتصاد الكلى نصب أعين صانع القرار وعدم الركون للسياسات المالية أو النقدية وحدها، ان قدرة السياسة تتضح فى قدرتها على ضخ سياسة القدرة فى نفوس الشعوب وتحيى الأمل فى نفوسهم.

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس