بقلم/ احمد سيف حاشد
كتبت هذه الاستهلال لمذكراتي ، ثم حولتها مسك ختام لجزئها الأول ، ولكني صرت اليوم أرجح أو أميل إلى أن تكون بعض من وصية.
أنتم العظماء لا هم!

اُكْتُبُوا مُذكِّراتِكمْ وسِيَرَكمْ، وتَجَارِبَكم، ومعاناتِكُمْ، وتاريخَكُمْ العظيم.. اكتبوا عمّا عِشتموه أو كنتم عليهِ شُهودٌ.. فيكم من هو أوْلَى وأنْزَهُ مَنْ يكتبُ التَّاريخَ بموضُوعيَّةٍ كبيرة أو تُقاربُ الحقيقة.. لا تدَعُوا المنتصرينَ يغتالونَ الحقيقةَ، ويُزيِّفُونَ الوعيَ، ويُفسدونَ التَّاريخَ والحياةَ، والهواءَ الذي تتنفسونه.

العظماءُ أنتُم لا هُمْ.. العظماء الَّذينَ لا يشعِلونَ الحُروبَ الضَّروسةَ، ولا يَصنعُونَ المآسيَ العِراض، ولا يستبِدُّونَ على الشُّعوبِ، ولا يَنْهبونَها، ولا يمارسونَ الطُّغيانَ أو بيْعَ الأوطانِ.. أنتم في الأعم ضحايا الواقعِ الجَهم، والظُّلمِ المُسْتبِد، والاضطهادِ العنيف.

أنتُم أعظمُ مِن الّذينَ صنعَتْهُم الأموالُ القذرةُ وماكناتُ الإعلامِ والإعلانات الكاذبة، من صنعت شهرتهم وسائل الدِّعايةِ ومساحيق الزَّيف.. أنتُم أجل مِن الّذينَ تَوالدوا قُبحا مِنْ مخرجاتِ الحُروبِ الدميمةِ والخياناتِ الكبيرة.. أنتُم الكثير من العطاءُ والجمالُ والتضحية.. بكدِّكُم وبساطتِكُم، وأحلامِكُمُ الجميلةِ.. ونحنُ من يحاول أن نكون بعض منكم، وإليكُم ننحازُ ونَنْتَمِي.
أنتُم أكبرُ مِنْ نُجومِيَّتِهمْ ومِنْ زَيفِهِم،ْ وخَوائهم الكبير.. رُبّما تخلّتْ عنكمُ الحظُوظُ والأقدار.. رُبّما الفارقُ أنّ الأقدارَ هي مَنْ دعمَتْهُم أو تواطأتْ معهُم، وفي المقابلِ خانتْكُم أو خذلَتْكُم، أو لم تأخذْ بأيدِيْكم كما فعلَتْ معَهُم.. ومع ذلك تَظلُّونَ أنتم العظماءُ الَّذينَ تَسْتحِقُّون كلَّ حبٍّ وتقديرٍ، واحترام.
عظمتُكُم أنّ حياتَكُم حافلةٌ بالكثيرِ مِنْ الكِفاحِ والعطاءِ، والضمير، فأزدتُموها عظمةً بِتواضعِكُم الجَم، ونُكرانِ ذواتِكم، فكنتم عظماءَ مجهولين أو مُغيّبين في حاضركم الذي عشتموه.. ومعَ هذا تُلحُّ الحاجةُ لمعرفةِ الكثيرِ مِمّا كان يجبُ أنْ يَعرِفُوه ويَعْلمُوه مَنْ سيأتي بعدِكُم، إنّه حقٌّ لهم عليكُم.. دوِّنوا ما لم تُدوِّنُوه.. اُكْتُبُوا عَمّا حاطَ بِكُم وما عِشْتُمُوهُ مِنْ تحدٍّ كبيرٍ ومعاناةٍ ثقيلةٍ، وواقع أنتم عليه شهود.

اكتبوا عن أفراحِكُم وأحزانِكُم، وتجارِبِكُم، وتاريخِكُم، وعَمّا فعلَتْهُ الحروبُ بِكُم، وكيف تآمرَ عليكم من أداروا التآمر، ثم تمادوا وأمعنوا، ثم أوغلو في التوحش والفجاجة الصارخة!! وكيف تعمَّدوا إفْنَاءَكُم قتلاً وجوعاً!! أناطَ بِكم الواجبُ اليومَ، أنْ تُساهِمُوا بجُهدٍ جهيدٍ في إعادةِ صياغةِ وعيِ مُجْتمعِكُم والأجيال القادمة.. ما أحوجَنا وأحوجَكم والأجيالَ إليه.
اُكْتبُوا تاريخَكُم قبلَ أنْ يزوِّرُوهُ أو يُفسدُوه.. إنّهُ تاريخٌ عظيمٌ يستحقُّ القراءةَ والإيْغالَ في الفَهْمِ، واسْتِكْناهَ العِظاتِ والعِبَرِ منه.. استحِثُّوا ما فيكم مِنْ عَظَمَةٍ وسُمُو، وعزَّةِ النفسِ دونَ أنْ تَبْخسُوا غيرَكُم إلّا بِقدرِ تعالِيهِ عليكُم، وما يكتظ به مِنْ أنانيَّةٍ وغُرورٍ، وخَوَاء.. كُونُوا كِباراً، ولنْ تكونوا كذلك إلّا بقدرِ انتمائكُم للإنسانِ والضميرِ والمستقبل.

اُكتبوا ما عِشتمُوهُ لِيهتديَ ويتّعِظَ مَنْ يأتي بعدَكم.. ستجدونَ فيهِ الكثيرَ ممّا يستحقُّ القراءةَ والإلهامَ والعِضةَ.. رُبّما حياتُكم أَوْلَى بالتّدوينِ والأهميّةِ مِنْ سيَرِ تلك الّتي زعَمَتْ الأقاويلَ إنهم عظماءُ وأفذاذٌ وقادةٌ كبار، وهم في الحقيقةِ مُجرّدُ سفاحين ومجرمينَ، وفاسدين.. نهابين ولصوصٌ.. قراصنة وقطَّاعُ طُرقٍ.. تجارُ رقيق نُصبت لهم التماثيل في الساحات العامة.. طغاةٌ ودجّالون.. مستعمِرون وحكّامٌ مستبدون.
أنتم العظماءُ لا هُم.. وربّما هُم الأصفارُ وأنتم الأرقامُ الّتي وضَعتْ لَهُم قيمةً ومكانةً دونَ أنْ تدروا أو تدركوا؛ فصيّروكم أتْباعاً وقِطْعانا وعبيدا منقادين.. وفي المقابلِ كثيرٌ من العُظماءِ باستحقاقٍ وجدارةٍ لم نسمعْ عنهُم، ولم تلتفتْ لهُم شُهرةٌ، وتَمَّ تجاهلُهُم، أو تغْييبُهم بِعمْديةٍ مستغرقةٍ، رُبّما بعضُها أو جلُّها جاءت من الّذينَ كانوا يَمْنعونها عنهم، بلْ ويمنعون أيضاً على المجتمعِ العيشَ الكريمَ، ومعهُ الضوءَ والهواءَ إنْ استطاعوا.

كثيرونَ مِن العُظماءِ لَمْ يَنالوا حقَّهُم في التَّقديرِ الّذي يجبُ، أو لم يَصِلوا إلى المكانةِ الجديرين باستحقاقها، لِمَا أحاطتْ بهم مِنْ ظروفِ منعٍ وصَدٍّ، وابتلاءٍ، أو رُبّمَا لأنَّهم سَبِحوا ضدَّ التّيَّارِ الجارفِ في مَجْرَى النَّهرِ شديد الانحدار، ورُبّما لأنَّ عظمتَهُم لم تصِلْ إليها الأضواءُ كما كان يُفْتَرِضُ، أو لأنّ العُظماءَ المُشْبعينَ بالحُرِّيةِ كانوا كِباراً لا يسقطون، ولا تَروقُهُمُ العُبُوديَّةُ والإذعانُ والنفاقُ، والِابْتذال.
عظماءُ كبارٌ وأبطالٌ ميامينُ لا نَسْمعُ عنْهُم. رُبَّما لأنَّه ليسَ لديْهِم ماكيناتُ إعلامٍ تساندُهُم وتُسَوِّقُهُم، وتَصْنعُ لهُم النُّجُوميَّةَ والشُّهْرةَ في عصرِ التّفاهةِ والتّافهين، ورُبّمَا لأنَّهُم عاشوا في بِيئةٍ طاردةٍ لهم ولآمالِهم، وأحلامِهم، وتطلُّعاتِهم، ولم تُعْطِهِمُ الحياةُ فُرصةً مُتساويةً لِلسِّباقِ مع غيرِهِم مِمَّن أحرزوا البُطولةَ، وهم في حقيقتِهِم خَواءٌ وهراء ومحضُ زَيْفٍ.
كونوا معَ العظماءِ والأبطالِ الميامينِ، عاشقيّ المجدِ الّذينَ رَاغمُوا الظّروفَ وواجهوا التَّحدياتِ، وعبروا النَّفقَ المُظلمَ والطويلَ إلى واجهةِ الكَوْنِ وعالَمِ النُّور.. كونوا مع هؤلاءِ العُظماءِ الّذينَ يَسْكنونَكُم أو يعيشونَ في دواخلِكُم دونَ خُيَلاءَ أو تعالٍ ونَرْجسيَّة.

أنصِفوا صُنَّاعَ المجدِ المُتوَارِينَ عن العَرْضِ، أو توارَوا عنْهُ خجلاً وحياءً، وتوَاضُعاً أو كانوا مِنْ ناكري الذَّات، أو خذلَتْهُمُ الأقدارُ، وابتلتْهم النُّحوسُ الكثيرةُ، ولم تُعْطِهِمُ الحياةُ فُرْصةً مُتساويةً معَ غيرِهِم.. انحازوا للمستقبلِ وللإنسانِ أينَمَا كان، وستكونون عظماءَ كباراَ بشهرةٍ أو دونَ شهرة.

من صفحة الكاتب بالفيسبوك

حول الموقع

سام برس