بقلم/ أحمد عبدالمعطى حجازى
أريد فى هذه المقالة أن أوضح ما قلته فى المقالة السابقة عما نعرفه عن فلسطين. قلت إننى اكتشفت فى هذه الأيام وأنا أقرأ مالدى من مؤلفات عن فلسطين وتاريخها، وعن تراثها القديم وثقافتها الحديثة أننا لا نعرف عنها إلا القليل.

وأول ما أريد أن أوضحه فى هذه العبارة هو أنى كنت أتحدث عن نفسى قبل أن أتحدث عن غيرى، فأنا الذى قرأت ما قرأته، وأنا الذى اكتشفت ما اكتشفته، وهو أن الذى نعرفه عن فلسطين قليل.

وأنا لا أشك فى أن لدينا من يعرفون الكثير عن فلسطين، لأن ظروفهم ساعدتهم على اكتساب هذه المعرفة. لدينا من تخصصوا فى تاريخ المنطقة، وتعلموا لغاتها القديمة، وقرأوا عنها، وقرأوا بها، وألفوا عنها وترجموا، وفلسطين فى القلب من المنطقة التى أتحدث عنها، ولدينا من اشتغلوا بالسياسة وعملوا فى السلك الدبلوماسى، وعرفوا عن القضية الفلسطينية ما أتيح لهم أو ما كان يجب عليهم أن يعرفوه.

لكن هؤلاء قليلون إذا قيسوا بغيرهم ممن اختلفت ظروفهم فلم يعرفوا عن فلسطين إلا ما يذاع وينشر خلال الأحداث التى تقع والنشاط السياسى الذى يتصل بهذه القضية.

وأنا أظلم نفسى إذا قلت إننى لا أعرف عن فلسطين إلا ما هو شائع، فقد عشت حياة ممتدة عاصرت فيها ما شهدته فلسطين وما شهدته مصر بالطبع والمنطقة كلها من أحداث وتحولات، بداية من أربعينيات القرن الماضى إلى اليوم، واشتغلت بالكتابة والصحافة، وعشت مع المشتغلين بهما، وارتحلت وتعرفت على عشرات من الفلسطينيين الشعراء والكتاب والسياسيين الذين لمعت أسماؤهم فى العقود الماضية، وقرأت عددا لا بأس به من المؤلفات والترجمات التى تدور حول القضية الفلسطينية، وحول الصهيونية والكيان الصهيونى، لكن الكثير الذى قرأته نبهنى لأكثر منه لم أقرأه، وأثار من الأسئلة أكثر مما قدم من الاجابات، والسبب أن فلسطين ليست مجرد بلد، ولكنها قضية متعددة الوجوه والأطراف، ممتدة الجذور والفروع فى الماضى والحاضر والمستقبل.

فلسطين ليست مجرد موضوع يثير فضولنا ونسعى للتعرف عليه، ولكنها رسالة حق مغتصب يستصرخ البشر جميعا، ونحن فى مقدمة من يستجيبون للصرخة ويشهدون بالحق، ولهذا نحتاج لأن نتسلح أولا بالمعرفة، لأن فلسطين كانت طوال تاريخها جسرا أو معبرا أو حلقة وصل بين بناة الحضارات الإنسانية القديمة. المصريين، والبابليين، والإغريق، والرومان، والعرب، والفرس. كانت حلقة وصل، وكانت أيضا ساحة حرب تلعب فيها الأساطير فى بعض الأحيان دورا لا يقل أهمية عن الدور الذى تلعبه الحقائق الثابتة، وهذا ما رأيناه ولا نزال نراه فى الحرب التى شنها المستعمرون الصهاينة، ومن يقفون معهم فى دول الغرب على أشقائنا الفلسطينيين، واغتصبوا فيها وطنهم، وواصلوها منذ بداية القرن الماضى إلى اليوم ليضمنوا بقاءهم فيها دون أن ينازعهم فى ملكيتها أحد. فإذا كان التاريخ فى ماضيه وفى حاضره يقف بجانب الفلسطينيين شاهدا لهم بأنهم أصحاب الحق، فالأسطورة تشهد للصهيونيين ليس فقط بحقهم فى انتزاع فلسطين من أيدى أهلها، بل أيضا فى القضاء على الفلسطينيين ومحو وجودهم رجالا ونساء وأطفالا، وليس أمامنا إلا أن نقرأ ما يزعم الصهيونيون أنه وحى سماوى ليكسبوه مصداقية لا يستحقها، فالدين بريء من هذا الشر المستطير الذى لا نستطيع حتى أن نتخيله أونحتمله وهو مجرد كلام مكتوب، فكيف يكون الحال وقد أصبح دولة تصنع ما تصنعه الآن مع الفلسطينيين ومع من يدافع عنهم؟!

اقرأوا معى فى الاصحاح الخامس عشر فى سفر «صموئيل الأول»، اقرأوا هذا الذى يزعمون أنه كلام الرب: «هكذا يقول رب الجنود، إنى قد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له فى الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ماله ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا... إلى أن يقول ـ وحاربهم حتى يفنوا»!

والذى نجده فى «صموئيل الأول» نجده فى سفر «قضاة» يقول: «اذهبوا واضربوا سكان يابيش جلعاد بحد السيف مع النساء والأطفال». ونجد مثله فى سفر «عدد» فى الإصحاح الحادى والثلاثين الذى يقول فيه موسى لرجاله حين انتصروا على المديانيين وجاءوا بالسبايا والغنائم: «فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال»! ونجد مثله فى «يشوع» ومثله فى «تثنية». أما ما تقوله الأسطوررة عما تعرضت له مصر على ما صنعته مع أسلاف اليهود فشيء لا يحتمل إلا إذا تذكرنا أنها أساطير لا علاقة لها بالدين أو التاريخ.

غير أن هذه الأساطير التى لا تصدق استطاعت أن تنتزع فلسطين من أيدى أهلها الذين صاروا لاجئين، وأن تنشيء دولة تعتبرها الدول الغربية المتحضرة واحة الديمقراطية فى المنطقة، وتنفخ فيها من روحها، وتجزل لها العطاء مالا، وسلاحا، ودعايات كاذبة، وشهادات مزورة، فى الوقت الذى تلعب فيه الأسطورة الدموية دورها الشرير فى غزة وفى الضفة، وتضرب الفلسطينيين بحد السيف، رجالا، ونساء، وأطفالا. ومن هو الفاعل؟ الفاعل هو العصابات التى تزعم أنها شعب الله المختاز!

ومن أغرب الغرائب أن نجد فى هذه الأيام من يصدق هذه الأساطير الشريرة، التى لم أقدم منها إلا إشارات سريعة، ولو أن القارئ العزيز عاد إليها فى نصوصها الكاملة لرأى إلى أى حد تتجاهل العقل وتضرب به عرض الحائط، وتهزأ بالتاريخ، وتتنكر لكل ما حصله البشر فى حضاراتهم من قيم فكرية، ومثل أخلاقية، ومع هذا تجد فى العالم من يصدقها وينسبها للدين، وبهذا يبرر للصهيونيين ما يرتكبونه من الجرائم التى تحضهم هذه الأساطير على ارتكابها.

لهذا، علينا أن نجتهد فى معرفة ما نستطيع الوصول إليه فى هذه القضية بوجوهها المختلفة، وامتداداتها فى الزمان والمكان لنتمكن من الدفاع عنها، ليس فقط لأن الفلسطينيين إخوة لنا، فالفلسطينيون إخوة لكل البشر، ولكن لأن قضيتهم حق، ونحن حين ننتصر للحق فى قضية ننتصر له فى كل قضية، وسوف يرى الناس فى المستقبل أن فلسطين أثبتت حقائق لا ناصر لها، وفضحت أكاذيب تتبناها قوى عظمى!

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس