بقلم/ علي الخشيبان
في الحقيقة أنه بغض النظر عمن سيفوز في انتخابات 2024، إلا أنه من المهم الإدراك بأن الأفكار السياسية الأميركية أصبحت مضطربة في الشرق الأوسط وغير قابلة للتفسير أو التبرير، لم تعد الأولويات الأميركية في المنطقة مفهومة كما في السابق، وهذا ما سوف يضاعف الغموض الاستراتيجي الأميركي في المنطقة بشكل مقلق..

غياب الشرق الأوسط عن مناقشة جادة في تلك المناظرة يطرح أسئلة مهمة، ولكن الأهم فيها هي حقيقة أن الانحياز الأميركي لإسرائيل وصل إلى "ذروته التاريخية" فلم تعد أميركا حذرة في اختياراتها للعبارات الدبلوماسية التي تصف الشرق الأوسط، ففي المناظرة لم تبدِ هاريس سوى القلق بشأن اكثر من أربعين ألف قتيل فلسطيني مبررة ذلك الموقف بأن هناك حاجة إلى حل الدولتين، وهذه عبارة سياسية تستخدمها السياسية الأميركية دون إعطاء تفاصيل حولها، وكدليل على وصول التأييد الأميركي لإسرائيل إلى ذروته فقد ناقش ترمب بأن هاريس تكره إسرائيل وأن إسرائيل سترحل في غضون عامين لو أصبحت هاريس رئيسا.

كلاهما وضع إسرائيل مادة انتخابية مهمة، وهذا ما جعل المرشحين يطرحان فكرة مهمة حول غموض استراتيجي يمكن التنبؤ به حول الشرق الأوسط، ترمب وهاريس في هذه المناظرة كان لديهما أرضية مشتركة حول إيران، ولكن المفاجأة أن الانتقاد لم يكن لموضوع السلاح النووي الذي يشكل جزءا مهما في فكرة الغموض الاستراتيجي حول المنطقة، هاريس قالت حرفياً إنها ستمنح إسرائيل دائماً القدرة على الدفاع عن نفسها فيما يتعلق بإيران وأي تهديد تشكله إيران ووكلاؤها لإسرائيل، السؤال هنا يجب أن يكون متشككاً أين ستكون إيران بعد تدمير غزة؟ لن تكون إلا في مشروعها النووي ومشروعها الطائفي الذي يشكل تهديدا استراتيجيا للمنطقة.

عندما يكون موضوع مقابلة رئيس وزراء إسرائيل قضية مهمة في مناظرة الرئاسة الأميركية فإن ذلك مؤشر يستحق التوقف، فترمب اتهم هاريس بأنها غابت عن خطاب نتنياهو في الرابع والعشرين من يوليو 2024م، في جلسة جمعت أعضاء مجلس النواب والكونغرس، هذه اللفتة دليل آخر على الذروة التاريخية التي وصلت إليها أميركا في دعم إسرائيل، المدلول الذي يمكن قراءته في هذه المناظرة هو أن إسرائيل: إما أنها أصبحت عبئا يصعد بشكل تدريجي عبر تفاصيل السياسية الأميركية الدقيقة، أو أنها فعلا تصل إلى طريق مغلق مع السياسة الأميركية بحيث جعلت ترمب وهو أول رئيس أميركي يتحدث عن زوال إسرائيل كنتيجة لوصول كمالا هاريس للرئاسة.

هذه المناظرة من وجهة نظري تعتبر تاريخية ويمكن تسميتها بالمنعطف الفعلي في التاريخ الأميركي، كل المؤشرات التي عكستها هذه المناظرة تؤكد تحولا حقيقيا في السياسة الأميركية التي تدخل عصر الأقليات بلا منازع وتدخل عصر مغادرة الأخلاق والقيم الإنسانية وتدخل عصر التراجع الحضاري، أميركا بطبيعتها مازالت قوية في تكوينها السياسي والاقتصادي والعسكري، ولكن كل هذا لن يمنعها سياسيا من مسارات سياسية داخلية تأخذها بشكل تدريجي إلى فقدان هذه العناصر التي شكلت قوتها.

الشرق الأوسط اليوم أمام تحديات كبرى؛ فأميركا لن تتوقف عن محاولاتها الدائمة للعودة إلى رأس الطاولة في الشرق الأوسط ولن تتراجع عن دعم إسرائيل في منطقة تغرق بالأزمات السياسية والعسكرية، فالشرق الأوسط محاصر بالأزمات ولا يمكن تغييره بالنسبة لأميركا التي لا تستطيع مغادرته، فهذه المنطقة تتحول وبشكل تدريجي إلى شاهد تاريخي على التراجع الأميركي العالمي سياسيا وعسكريا، حلفاء أميركا وخصومها يجتمعون في المنطقة، ولذلك فإن مفتاح بقائها في الشرق الأوسط سيكون مكلفا، لذلك فالمنطقة وقياداتها ودولها المستقرة أمام خيارات عدم الاستجابة للدفع الأميركي السياسي.

الرؤية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة غموض استراتيجي وهناك ارتباك شديد في فهم الحدود المتاحة للنفوذ الأميركي على المنطقة وحتى العالم، وهذا الاستنتاج كان واضحا في مناظرة هاريس وترمب، لقد فقدت المناظرة التمييز بين المصالح الحيوية لأميركا وعلاقاتها مع المنطقة التي ظهرت في هذه المناظرة وكأنها تتكون من دولة واحدة هي إسرائيل، ظهور هذا المؤشر في السياسة الأميركية عملية سلبية تجاه المنطقة وحلفاء أميركا القادرين اليوم على تغيير معايير التوازن الاستراتيجي في المنطقة.

في الحقيقة أنه بغض النظر عمن سيفوز في انتخابات 2024، إلا أنه من المهم الإدراك بأن الأفكار السياسية الأميركية أصبحت مضطربة في الشرق الأوسط وغير قابلة للتفسير أو التبرير، لم تعد الأولويات الأميركية في المنطقة مفهومة كما في السابق، وهذا ما سوف يضاعف الغموض الاستراتيجي الأميركي في المنطقة بشكل مقلق، فالحقيقة التي أصبحت واضحة اليوم هي العجز الأميركي عن قيادة الشرق الأوسط إلى مستقبل أفضل، لقد فقد الشرق الأوسط واقعية أميركا وانضباطها السياسي، ولعل أكبر الأدلة في ذلك ما حدث في غزة التي فقدت أكثر من أربعين ألفا من المدنيين، مع هذا الغموض الاستراتيجي الذي تمارسه السياسة الأميركية فمن الطبيعي أن يستمر الشرق الأوسط في حالة من الفوضى لسنوات قادمة وخاصة مع بقاء القضية الفلسطينية بلا حلول جذرية.

* نقلا عن " الرياض"

حول الموقع

سام برس