بقلم/ د. محمد فايز فرحات
رغم التباينات الكبيرة بين الدولة كفاعل دولى والأشخاص الطبيعيين، لكن تظل هناك بعض التشابهات بينهما، على نحو دفع الكثير من منظرى العلوم السياسية والعلاقات الدولية إلى اللجوء إلى بعض نظريات العلوم الطبيعية والاجتماعية المعنية بفهم وتفسير السلوكيات الفردية لتفسير بعض الظواهر الدولية وسلوك الدولة. ويؤسس لبعض هذه التشابهات أن القائد السياسى (صانع القرار الخارجى) هو فى التحليل الأخير إنسان، الأمر الذى يفتح المجال أمام تأثير العوامل والمتغيرات الذاتية، الأمر الذى يفسر بدوره التباينات بين سلوكيات دولة وأخرى حسب درجة وعى والتزام القيادة السياسية بالمتغيرات والمدخلات الموضوعية فى عملية صنع القرار، وقدرتها على التصرف بحيادية عن تأثير المتغيرات الذاتية، وضمان الطابع المؤسسى لتلك العملية.

«الأشخاص صانعو المشكلات» the troublemakers هم شخصيات تقوم ــ حسب أحد التعريفات ــ باصطناع المشكلات عن وعى أو بدون وعي، حيث يصبح هذا السلوك أقرب إلى «السلوك الفطري»، الأمر الذى يفتح المجال أمام البحث فى مجموعة الدوافع التى تقف وراء هذا الطابع. «الأشخاص صانعو المشكلات» هو مصطلح معروف فى الحياة اليومية للمواطنين أو لدى علماء النفس وعلماء النفس الاجتماعي، أما مفهوم «الدول صانعة المشكلات» the troublemaker states فليس متعارفا عليه بين منظرى العلوم السياسية والعلاقات الدولية، لكن الخبرة الطويلة فى العلاقات الدولية تسمح باستنتاج مثل هذه التصنيفات، بل ربما تفرض ذلك.

أهمية مفهوم «الدول صانعة المشكلات» أنه يسمح بتوقع وتفسير سلوكيات هذه الدول على مدى زمنى طويل نسبيا، بعيدا عن السياقات الموضوعية الحاكمة لسلوكها. وهناك بعض المحاولات التى ربطت بين سلوك فئات دولية محددة وسماتها الموضوعية، من ذلك وضع سمات محددة مشتركة للسياسات الخارجية للدول الصغيرة التى تقع فى محيط جغرافى من الدول الكبيرة، أو «الدول الجزر»، حيث تميل هذه الدول فى الأغلب إلى تبنى سياسات خارجية يغلب عليها الطابع السلمى والتعاوني. كما تميل إلى تبنى سياسات خارجية محايدة أو الارتباط بدولة كبيرة تضمن حمايتها.

لكن هذا لايعنى عدم استخدام مفهوم «الدول صانعة المشكلات»، فهناك بعض الاستخدامات المحدودة؛ من ذلك على سبيل المثال، الانتقاد الحاد الذى وجهه الممثل الدائم للصين لدى الأمم المتحدة، فو كونغ، لحلف شمال الأطلسى خلال الجلسة التى خُصصت لمناقشة النظام الدولى والتعاون متعدد الأطراف فى يوليو الماضي، ووصفه للحلف بأنه «صانع مشكلات». كذلك، كانت هناك محاولات لوصم دولة أو أكثر بتوصيفات أخلاقية محددة، من ذلك مفهوم «محور الشر» Axis of Evil الذى استخدمه الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش فى يناير 2002 للإشارة إلى العراق وإيران وكوريا الشمالية. لكن مع ذلك، فإن هذه الاستخدامات ــ بصرف النظر عن اتفاقنا معها من عدمه ــ جاءت إما مرتبطة بمواقف أو أغراض سياسية محددة ومؤقتة، أو ظلت محدودة الاستخدام، دون أن تستند إلى توافق دولى واسع يضمن استقرارها وتحولها إلى مؤشر يستند إلى مفهوم منضبط منهجيا ومؤشرات يمكن قياسها كميا.

لقد أفاض منظرو العلوم السياسية والعلاقات الدولية فى صك العديد من المفاهيم لتصنيف الدول استنادا إلى معايير عدة، لكن ستظل هناك حاجة لمزيد من المفاهيم؛ ليس فقط لوصف ظواهر دولية جديدة لازالت فى حاجة للكشف عنها، ولكن لأهمية وجود مثل هذه المفاهيم لما تقوم به من وظائف سياسية مهمة فى تحديد المواقع النسبية لكل دولة بالمقارنة بمعايير دولية محددة. هذا لايعنى أن كل المفاهيم السياسية تستند إلى مفاهيم ومعايير منهجية موضوعية، لكن كلما كانت هناك مفاهيم دولية تشجع وتعزز من قيم الاستقرار والتفاعل الإيجابي، وحماية الموارد الاقتصادية.. إلخ، كلما كان ذلك فى مصلحة الجماعة الدولية والمجتمعات الإنسانية. وجود مفهوم مثل «الدول صانعة المشكلات» يساهم بلا شك فى تحديد الوزن النسبى وحجم مسئولية كل دولة فى صناعة عدم الاستقرار، ويكشف عن طبيعة علاقات هذه الدول بإقليمها وبالجماعة الدولية، وحجم تأثيرها السلبى فى الأمن الإقليمى والأمن العالمى.

هناك بعض المفاهيم الأخرى التى حاولت خلق علاقة بين حالة الدولة والأمن الإقليمى والعالمي، مثل مفهوم «الدول الفاشلة» failed states، ثم «الدول الهشة» fragile states، والتى حاولت قياس حالة الدولة استنادا إلى مجموعة من المؤشرات المركبة، والتى أسست لافتراض ضمنى بأنه كلما زاد عدد الدول الهشة فى إقليم ما كلما زادت حالة عدم الاستقرار وزادت فرص انتشار التنظيمات الإرهابية.. إلخ. لكن مع أهمية هذا المفهوم فإنه لا يقدم وصفا دقيقا لحالة دول تلعب دورا واعيا فى تقويض الأمن الإقليمى والعالمي، وفى بعض الحالات يحظى هذا الدور بغطاء ودعم دولى معلن. أضف إلى ذلك، فإن ظاهرة «الدولة الهشة» ترتبط بعوامل موضوعية داخلية، على عكس مفهوم «الدولة صانعة المشكلات» الذى لا يرتبط بالضرورة بهذه العوامل. كذلك، فإن «الدولة الهشة» لا تمتلك القدرة على الفعل الداخلى أو الخارجي، بسبب ضعف أو انهيار السلطة الداخلية. الأمر نفسه ينطبق على مفهوم مثل «الدولة الراعية للإرهاب» أو طبيعة السلوك الخارجى للأنظمة غير الديمقراطية استنادا إلى «نظرية السلام الديمقراطي» التى حاولت الربط بين طبيعة النظام السياسى والسلوك الخارجى للدولة. المفهوم الأول إما جرى تسييسه بشكل كبير، أو لا يعكس سوى إحدى الأدوات التى تستخدمها «الدولة صانعة المشكلات». والثانى يفتقد إلى الأدلة الموضوعية على صدقه دائما.

التمايزات السابقة تعطى أساسا للحاجة لمفهوم مثل «الدولة صانعة المشكلات». لكن هذا لا ينفى أيضا أن لجوء دولة ما إلى صناعة المشكلات والأزمات الخارجية، خاصة مع محيطها الإقليمى، يرتبط فى بعض الحالات بعوامل داخلية، مثل وجود أزمات سياسية، حيث تميل القيادة السياسية فى هذه الحالة ــ وفق بعض التفسيرات ــ إلى اصطناع أزمة خارجية لتخفيف الضغوط الواقعة عليها أو تصدير الأزمة إلى الخارج. لكن هذه التفسيرات لاتقدم هى الأخرى وصفا دقيقا لحالة «الدولة صانعة المشكلات»، إذ لاترتبط صناعتها للمشكلات الإقليمية والدولية بالضرورة بوجود أزمات سياسية داخلية، كما قد لاتلجأ القيادة السياسية بالضرورة إلى تصدير أزماتها الداخلية لمحيطها الإقليمي، دون أن ينفى وجود هذه العلاقة فى بعض الحالات.

هكذا، فإن أيا من المفاهيم السابقة، لا يقدم توصيفا دقيقا أو كافيا للدول صانعة المشكلات، التى باتت تمثل إحدى الظواهر الدولية المهمة، والتى يعانى منها إقليم الشرق الأوسط والقرن الإفريقى منذ عقود. صناعة المشكلات الخارجية، وخلق حالة من الاضطراب الإقليمى، باتت إحدى السمات الهيكلية لهذه الدول وسياساتها الخارجية، الأمر الذى بات يستوجب أيضا فهما دقيقا لمصادر هذه السمة. هذه العوامل تتوزع بين مصادر داخلية، تشمل طبيعة النظام السياسى والقوى السياسية، وظروف وطريقة نشأة الدولة، والتركيب الدينى والقومي... إلخ. لكن كل هذا لا يكفى لفهم هذا النمط من الدول، إذ لابد من فهم طريقة تفاعل كل هذه السمات الهيكلية مع المتغيرات الذاتية المتعلقة بطبيعة القيادة السياسية والنخب السياسية وطبيعة النظام الثقافى السائد.

وجود مفهوم مثل «الدول صانعة المشكلات» يساهم بلا شك فى تحديد الوزن النسبى وحجم مسئولية كل دولة فى صناعة عدم الاستقرار، ويكشف عن طبيعة علاقات هذه الدول بإقليمها وبالجماعة الدولية، وحجم تأثيرها السلبى فى الأمن الإقليمى والأمن العالمى.

[email protected]

نقلاُ عن الاهرام

حول الموقع

سام برس