بقلم/ د. فايز أبو شمالة
دون الإنسان فلا قيمة للأوطان، هي صحراء ذابلة إن غاب صاحبها، ولا تكتسب بقعة الأرض قيمتها إلا من قيمة الإنسان الذي يعيش عليها، وينتفع بها، ولعل شاعرنا الفلسطيني الكبير محمود درويش تحدث شعراً عن العلاقة بين الإنسان والأرض، في قصيدة لماذا تركت الحصان وحيداً، في تلك القصيدة يسأل الابن أباه أثناء الهجرة من فلسطين:
لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً؟ فيأتي الجواب سريعاً ومدوياً وجازماً:
لماذا تركت الحصان وحيداً؟
لكي يؤنس البيت يا ولدي
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها
لقد اختصر شاعرنا قضية الأسرى الفلسطينيين في جملتين شعريتين، تؤكدان على أهمية وجود الإنسان بشخصه أو بذاكرته وذكرياته، ليواصل الارتباط بالأرض، ويعطي للمكان قيمته، فالأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية ليسوا أرقاماً، ولا هم قضية إنسانية، يقاتلون سجانهم من أجل تحسين شروط الأسر المقيت، الأسرى الفلسطينيون قضية سياسية، تحاكي قضية الأرض الفلسطينية، وأي تخاذل أو توانٍ في تحرير الأسرى، يعني الفشل والمذلة والمهانة، ويعني العجز والإحباط والقنوط، ويعني التدليس السياسي على الإنسان الفلسطيني، فكيف يسمح مجتمع لنفسه أن يعيش ويتنفس ويمارس طقوسه اليومية، دون أن ينشغل بإخوة له يعذبون في السجون الإسرائيلية، وكيف لقيادة فلسطينية تدعي أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تتخلى فيه عن عدة آلاف من الأسرى في السجون، كانوا في لحظة تاريخية عصب الانتماء لفلسطين، وعنوان المقاومة والتحدي للمحتلين، وهم الابن الشرعي للثورة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية أبوهم الشرعي، والممثل الشرعي لا يتخلى عن أولاده، ولا يتركهم في السجون لأكثر من أربعين سنة، كما حدث مع الأسرى كريم يونس وماهر يونس ووليد دقة وإبراهم أبو مخ وغيرهم، لينعم هو بالمال والجاه والسيارات والتجوال في دول العالم على حساب الشعب.

لقد ادركت فصائل المقاومة الفلسطينية أهمية الإنسان في مسار المقاومة، وأن التفريط بالإنسان الفلسطيني، وتركه خلف الأسوار يعني التفريط بالأرض الفلسطينية، وتركها فريسة للمستوطنين، فالأرض هي الإنسان، ومن هانت عليه حياة الإنسان خلف الأسوار هانت عليه الأرض خلف سياج المستوطنين، لذلك كان شغل المقاومة الفلسطينية الشاغل هو تحرير الأسرى، وكسر إرادة العدو الإسرائيلي؛ الذي يتعمد أن يكسر روح الانتماء لدى الشعب الفلسطيني، ويتعمد أن يكسر ثقة الشعب بالمقاومة، من خلال ترك آلاف المقاومين خلف القضبان لعشرات السنين، ليكون أسمى أماني منظمة التحرير الفلسطينية، تحسين شروط الاعتقال، لا إطلاق سراح الأسرى.

المقاومة الفلسطينية في غزة تحملت العذاب والقتل والذبح والحصار عشية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط سنة 2006، وظلت قابضة على الجمر، بعدما قصف العدو محطة توليد الطاقة، وقصف جسر غزة بكل عنف، وأرعب أهل غزة لعدة أسابيع، وكانت النتيجة خضوع العدو لشروط المقاومة، وتنفيذ صفقة تبادل أسرى سنة 2011، تم بموجبها الإفراج عن أكثر من ألف أسير، جلهم من المحكومين مدى الحياة.

في تلك الفترة من عمر القضية الفلسطينية خرجت أصوات فلسطينية تطالب المقاومة بتسليم الأسير الإسرائيلي بلا مقابل، كي يتوقف القصف على غزة، حتى وصل الأمر بالرئيس محمود عباس أن يطالب علانية بإعادة الأسير جلعاد شاليط، إلى أهله، على اعتبار أن احتجازه يتعارض مع أخلاقنا الفلسطينية، ويعرض أهل غزة للدمار.

وفي هذه الأيام، ومن لحظة أسر مئات الجنود والضباط الإسرائيليين في معركة طوفان الأقصى، والأصوات الفلسطينية الشاذة تدعو إلى إعادة الأسرى الإسرائيليين إلى ذوبهم بلا مقابل، لتجنيب غزة الدمار والقتل والخراب، ومنطقهم يقول: لا داعي لهذه المعركة، ولا مبرر لتقديم آلاف الضحايا من أجل تحرير عدة مئات من الأسرى، بل وراح البعض يربط بيت الإرهاب الإسرائيلي ضد المدنيين، وبين أسر الجنود والضباط الإسرائيليين، ويحمل مسؤولية حرب الإبادة لرجال المقاومة، بل وصل الأمر في بعض التائهين وطنياً، أو المبرمجين سياسياً؛ أن يتمنى الموت للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، كي تنتهي الحرب، في لغة ليست انهزامية، وإنما لغة غير وطنية، لغة سياسية تقف من خلفها أجهزة أمنية داخلية وخارجية، ضمن حملة إعلامية كبرى، تهدف إلى إفساد العمل المقاوم، والتقليل من شأن صفقة تبادل الأسرى، والاستخفاف بالمردود المعنوي والاجتماعي والسياسي والإنساني على مجمل القضية الفلسطينية من خلال فرض صفقة تبادل أسرى على العدو الإسرائيلي.

تحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية ليست قضية أشخاص، وأسماء، وتنظيمات، تحرير الأسرى في صفقة تبادل أسرى تعني الندية، وتعني احترام المقاومة للإنسان الفلسطيني، وتعني كسر الإرادة الإسرائيلية، وتعني التحفيز على مقاومة المحتلين، من خلال بث الأمل في زنازين الأسرى الفلسطينيين، بأن من خلفهم مقاومة لن تتخلى عنهم، ولن تتركهم فريسة الأوهام والأمراض، وأنهم ذو قيمة وطنية وإنسانية، وأنهم أصحاب القضية، وأن المقاومة صادقة في حديثها عن تحرير الأرض بدليل مصداقيتها في العمل لتحرير الإنسان؛ الذي عمل على تحرير الأرض، فوقع في أسر العدو.
صفقة تحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية رسالة إلى الأرض الفلسطينية بأننا لن نتخلى عنك رغم الأسر، ورسالة إلى المستوطن الصهيوني، بأن من يحرر الإنسان من وراء القضبان رغم أنف السجان، سيحرر الأرض من قبضة المستوطنين رغم كل ما شيدوه من طرقات وأسيجة وبنيان، ولأجل فلسطين، ولأجل إيصال رسالة المقاومين، لم يرتعب رجال المقاومة من دفع الثمن، ولم يترددوا في مواصلة المقاومة رغم حرب الإبادة، حتى تجاوز عدد الشهداء في غزة 46 ألف إنسان بين طفل وامرأة ومقاوم.

أكثر من 46 ألف شهيد، وأكثر من عشرة آلاف مفقود، وأكثر 150 ألف جريح رقم كبير جداً مقابل تحرير عدة آلاف من الأسرى، ذلك بالمفهوم المجرد من المشاعر الإنسانية والوطنية، وذلك بالمفهوم النظري، ولكن من حيث القراءة التاريخية والسياسية لصفقة تحرير الأسرى، ندرك أن ارتفاع منسوب الضحايا في غزة كان سياسة إسرائيلية تهدف إلى كسر الإرادة الفلسطينية، وكسر روح المقاومة، وتجريد الشعب الفلسطيني من مقومات الوجود، والثقة بقدراته وقراراته.

صفقة تبادل الأسرى ـ ورغم تكلفتها الباهظة ـ أوصلت للعالم رسالة بأن الفلسطيني صاحب قضية، وصاحب عقيدة، وصاحب وطن، ولن يتخلى عن أرضه، ولن يخون عرضه، ولن يترك أعداءه هانئين هادئين فوق تراب فلسطين، وأن الفلسطيني الذي يقدم عشرات آلاف الضحايا من أجل تحرير عدة آلاف من الأسرى، هو جاهز لأن يقدم المزيد من التضحيات في سبيل تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في استرداد أرضه وحريته.

يوم السبت، سيتم الإفراج عن مجموعة من أسرى فلسطينيين يقضون في السجون الإسرائيلية محكومية مدى الحياة، أسرى تمتد لهم يد المقاومة بشعلة الحرية، لتعطيهم الحياة، وهي توصل وريد أهل غزة المتدفق بالدماء، بوريد الأسرى الفلسطينيين، وهم يبعثون الأمل في نفوس الشعب الفلسطيني باننا قوم أقوياء، وأعزاء، وأن دماء أهل غزة كانت القنديل الذي أضاء طريق الحرية للأوفياء الشرفاء.
كاتب فلسطيني
نقلاً عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس