بقلم/ احمد الشاوش
تظل الذكريات الجميلة واللطيفة هي الوجه الآخر للسعادة التي لم نستطع ان ننساها بعد ان تهدم البيت اليمني وتحولت البلد الى مآسي واحزان وطلاسم واسرار ..

مازلت اتذكر تلك الحياة الجميلة والمشاهد الفريدة عندما كنت في وشحة وحرض وبني حسن في التسعينات نغطي عملية الاستفتاء على الدستور ، والمعارك السياسية والحزبية والايدلوجية حامية الوطيس تحت رماح نعم للدستور ولا للدستور ، وايقاعات الاسلام هو الحل وسيمفونية العلمانية ومزيقة الدولة المدنية وغيرها من الشعارات البراقة..

وفي أحد الايام عدت من وشحة الى عبس ، وشفر ونزلنا ضيوفاً عند الفندم حسن هيج الذي كان حينها مديراً لمديرية وشحة وحلف اننا ضيوفه ثلاثة ايام ، كانت من اجمل أيام العمر لكرم الرجل وجمال الطبيعة وبساطة أهلها الطيبين وروعة الارض الزراعية والهواء العليل وسنابل الحبوب المحملة بالخير واشجار الفاكهة وتواضع الناس .

رأيت الارض الطيبة والخضروات المتنوعة والفواكة والثمار التي تنتجها ارض بلادي .. نظرت الناس الاغنياء والبسطاء والكادحين والمدقدقين والمسحوقين حتى العبيد .. تمتعت برؤية الاشجار الوارفة الظلال المحملة بإغصان المانجو التي تسر الناظرين ودُرر الفُل والكافور وغيره من الورود.

رأيت .. المرأة الريفية العظيمة بنت تهامة المخضبة بذرات الرمل الذهبية وسمرة الارض البكر ، تلك المرأة العاملة في الطقس الحار جداً والشتاء القارس جداً وبين المطر والرياح والعواصف..

تلك الام والاخت والزوجة التي تستحق مجسم أكبر من تمثال " الحرية " الزائف في واشنطن ، وجائزة اكبر من جائزة " نوبل " التي تمنح للعلماء وشياطين الانس والجن والمتعهدين بقلب الانظمة السياسية .. لعملها وكدها وشقائها ومعاناتها وصبرها وظلمها مقارنة بنساء الطبقة العادية والراقية في اليمن والعالم العربي التي ضيعت أعمارهن وجمالهن وحسنهن مابين البريستيج والموضة والمكياج وفساتين السهرة والعطور والكافية والحلقات المدبلجة والشيشة وغيرها من لزوم الاناقة!!.

شاهدت الثروة الحيوانية الكبيرة التي حبا الله تلك الارض الطيبة والمراعي الخضيرة بالابل والابقار والاغنام والماعز ، ناهيك عن الثروة السمكية الوفيرة والنادرة ..

رأيت جنون البشر والغجر وتهور السائقين وسيارات الهيلوكس الخاصة بالمقاوته التي تكاد أن تبتلع الطرق .. تطير بسرعة الصوت للوصول في وقت مبكر الى أسواق القات ..

شاهدت حماقة وجنون وضجيج ومخاطر سائقي الدراجات النارية المنتشرة كالجراد الصحراوي والحوادث المرورية المأساوية وتطاير تلك الدراجات وسائقيها في الجو من شدة الحوادث المرعبة التي لا نجدها الا في افلام هوليود وبوليود.

رأيت عروس البحر الاحمر وشوطائها الساحرة وأهلها الطيبين تلك المعالم العظيمة وذلك المجتمع المصاب بداء الفقر والجوع والعطش والاهمال التي غزاها الكثير من مشايخ وعتاولة الهضبة وغير الهضبة المتنفذين والقادة ورجال الاعمال ولصوص الاراضي وكيف تحول الكثير من أبناء مدينة الحديدة وتهامة الكرام الى وجوه بائسة وبطون خاوية وجائعة وفقيرة ومشردة ونازحة ومتسولة واشبه بالهيكل العظمي ..

رأيت بالامس وشاهدت حتى اليوم اهمال الدولة لاهل تهامة البسطاء وفداحة الظلم وقطف ثرواتها وخيراتها واحتراق ابناءها بنار المسؤولين ولوبيات الفساد ولهيب تجار الحروب ونار الصيف في ظل انقطاع وارتفاع تسعيرة الكهرباء التي تجاوزت اسعار العالم الغني والفقير..

تناولت الخبز البلدي الطيب والبيض البلدي واللحم والعسل واللبن الذي يعكس صفاء وكرم ونخوة الانسان التهامي النبيل وارضه البكر التي تُعتبر سلة الغذاء اليمني والعربي لو ان الدولة والمسؤولين والمستثمرين اهتموا بها وحافظوا على اراضي الناس البسطاء من النهب والسطو والمصادرة ووفروا فرص العمل ودعموا وحموا المزارع من الايادي الآثمة في الماضي والحاضر، لما تولدت نغمات الحقد والكراهية بين ابناء المحافظة الذين أصبح أكبر حلمهم كهرباء باسعار رمزية وشربة ماء باردة تعيد لهم توازنهم.

ومن المفارقات العجيبة والغريبة ان ابناء الحديدة والتهائم اليمنية الاصيلة تحت خط الفقر في غياب دور الدولة ومؤسسات القطاع الحكومي والخاص حتى في ايام الكوارث الطبيعية ، ورغم ذلك مازال ابناء الحديدة على قيد الحياة رغم الفقر المدقع والحياة البائسة وغياب الدولة ورجال المال والاعمال والمنظمات وتجفيف ومنع المتنفذين للمساعدات والصدقات .. بأمكان الفرد والاسرة ان يشتري بخمسين ريال سمن وخمسين حبتين سمك باغة ومائة ريال سكر وحبه بطاط وحبه طماط وفتة تبقي أهل تلك المحافظة الغنية بثروتها السمكية وخضرواتها وفواكهها وفُلها ووردها على قيد الحياة ، بينما المسؤولين مشغولين بالجبايات والبزنس والصفقات والاتاوات بعيداً عن أحوال المواطن والاسرة والمجتمع الحديدي المسلم والمسالم.

أخيراً .. السواد الاعظم من ابناء الحديدة مدقدقين .. مطحونيين .. طايحين .. كارهين للواقع والحياة المعيشية الضنكى وبحاجة ماسة الى لفتة اخلاقية ودينية وانسانية تنتشلهم من الفقر والجوع والمرض والضياع وغياب الخدمات والموت المحقق ، بينما بعض المسؤولين والمشرفين ورجال الاعمال والقادة في الفنادق والمطاعم الفاخرة يأكلون مالذ وطاب على حساب غيرهم.

نأمل من قيادات الدولة العلياء ومؤسساتها مراجعة النفس وكذلك القطاع الحكومي والخاص ورجال الاعمال والميسورين وهيئة الزكاة انقاذ ابناء الحديدة للبقاء على قيد الحياة.. مأساة الحديدة ليست وليدة اليوم ، لكنها اليوم أسواء من أي فترة مضت.
ارحموا من في الارض .. يرحمكم من في السماء.

حول الموقع

سام برس